الخوف السائل
يمكن أن نقول إن الوباء الأشد فتكًا ببني البشر هو الخوف. فالخوف يكبر بسرعة مثل كرة ثلج ويتدحرج في كل مكان متسببا للناس في الذعر والارتباك، وللحركة الاقتصادية في الشلل.
والخوف إحساس طبيعي ومشروع بل ومطلوب لأنه يجنبنا المخاطر المحدقة بنا ويحمينا من طيش أنفسنا وطيش الآخرين.
لكنه عندما يزيد عن حده يصبح مثل الجرعة المميتة، تعاطيه بإفراط يؤدي إلى الهلاك.
لم تستطع إنجازات الإنسان الحديث القضاء على مخاوفه “البدائية”، بل إنها تعاظمت إلى الحد الذي أصبح فيه التعايش مع الخوف هو الأصل. الخوف من الموت، الخوف من المرض، الخوف من الكوارث، الخوف من الأشرار الطامعين. المخاوف لا تزال هي ذاتها منذ الأزل وإن تجددت طبيعتها. ففي عالم الطبيعة الذي كان ينتمي إليه الإنسان قبل الثورات العلمية والتقنية الحديثة، كانت مواجهته للخوف تتم بالفرار إلى مكان قصي آمن، أو بالاحتراب لإقصاء الخصم ليعود الشعور بالأمن مرة أخرى. وأحيانا كان الإنسان يذهب في همجيته إلى حد أكل لحم عدوه. أما الآن، فلم يعد الإنسان يأكل أي لحم، بل أصبح عليه أن يحذر من تناوله بإفراط.
وفي كل مكان هناك تحذيرات من شيء ما، من مرض أو فيروس أو تسمم أو حريق أو تلوث. وفي كل مكان هناك عيون إلكترونية تراقب كل شيء وتسجل كل شيء. الشاردات والواردات. ففي كل شارع وزقاق ومساحة هناك دوما احتمال أن يخرج من العدم عدو متربص. ليخترع الإنسان بالموازاة مع هذا الخوف الدائم اقتصادا يقوم بالكامل على الخوف. وهو ما يظهر في مختلف أنواع التأمينات وبرامج الادخار التي لا تنتهي، وكلها استثمار في الخوف. خوف على الحياة من الموت المفاجئ، وخوف على الصحة من المرض، وخوف على المنزل من حريق، وخوف على السيارة من اللصوص، وخوف على المستقبل المالي من إفلاس محتمل، وخوف من فقدان الوظيفة بسبب طرد.
ومن قرروا ألا يخافوا، فإن المجتمعات الحديثة فوضت للدولة الحق في أن تفرض عليهم الخوف بتأمينات إجبارية قد لا يحتاجونها أبدا. باختصار نحن في عالم أفلح في تدوير الخوف بلغة “زيجمونت باومان” الذي وضح ذلك جيدا في كتابه الممتع “الخوف السائل”.
ففي هذا العالم الذي لم يعد تحت سيطرة التجار والصناع منذ أن استولى عليه المضاربون، أضحى الخوف مسيطرا على اقتصادات العالم. فالخوف من قرار سياسي أو عسكري أو إداري كاف ليجعل كل بورصات العالم تتعرض لرجة، ليدخل العالم متاهات من قبيل المتاهة التي دخلها في 2008، ودخلها هذه السنة بسبب جائحة “كورونا”. هذا الخوف أضحى عبثيا بشكل مثير للدهشة. فبعدما انتشر الفيروس وحصد عشرات الآلاف من الأرواح، لم يرتفع الخوف، بل ظهر خوف من موجة ثانية وثالثة قد تكون الأقسى. لنسائل أنفسنا عن المعنى الذي نعطيه للعقلانية التي نصف بها العصر الحديث، عصر أضحى فيه الخوف هو الهواء الذي نتنفسه.
ففي كل مكان الآن، في العالم المادي كما في العالم الافتراضي، هناك خطابان متناقضان لكنهما متعايشان. خطاب يحذر من كل شيء، الخوف من التجاعيد، الخوف من الشيخوخة المبكرة، الخوف من الوزن الزائد، والخوف من فقدان الوزن أيضا. الخوف من فقدان الشعر، والخوف من فقدان الشهية، والخوف من فقدان الزوج أو الزوجة، ولكن في الوقت نفسه نجد خطابا يدعي التحكم في هذه المخاوف ويقدم وصفات جاهزة لتجاوزها.
ففي مواقع التواصل الاجتماعي مثلا، هناك ملايير المحتويات يدعي كل منها حمايتنا من شيء ما، وأحيانا مجانا أو بثمن بخس. فبقدر ما يتم تضخيم المخاوف والتوجسات بقدر ما يتم أيضا تضخيم الشعور بالحماية والأمان.
في عصرنا الحالي، أصبح الأفراد والدول “يعيشون في ضباب”، فلا هم بالعميان ولا هم “حطاب ليل”، لذلك يدخرون، وهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم خائفون مما سيأتي. والجميع مدين. ولا فرق هنا بين عامل ورب عمل، حاكم ومحكوم، فقراء وأغنياء، فالجميع يستهلك ويقترض من المستقبل مسبقا. وعندما يأتي هذا المستقبل فإنه لن يختلف اختلافا كبيرا عن الحاضر. لأنه ببساطة سيكون مفعما هو أيضا بمخاوف قد تكون أعظم.
وكم كانت قصة باخرة “تيتانيك”، رغم نسخها الأسطورية المختلفة، نسخة مطابقة لعالم اليوم. فبقدر ما كانت الثقة في عدم الغرق كبيرة، بل ويقينية، بقدر ما كانت الهشاشة مرافقة لنا. فبقدر ما كان جسم السفينة قويا بقدر ما كان تهور صناعها أقوى. فلا خطط نجاة ولا قوارب كافية للجميع.
فبقدر ما يتعاظم خطاب الإنسانية المتفائل بقدر ما يتعاظم أيضا خطاب الكراهية والتمييز، وها هو العالم يغرق على أنغام الموسيقى، تماما كما في القصة.
وعندما نرى ما يفعله فيروس كورونا اليوم بالبشرية، قد تبدو لنا فظائع الحربين العالميتين، الأولى والثانية، مجرد “حفلتي شاي”. فإلى جانب الشعور المتعاظم بالتحكم في الطبيعة وقوانينها، هناك دوما وهن قد يكشفه حدث صغير، قد يكون مجرد “تغريدة طائشة” لرئيس دولة أو مجرد موجة هلع لمستثمر في بورصة.
في القرن العشرين كانت مخاوف الإنسان من الإنسان كبيرة، ففي كل مرة يمكن أن يحدث هجوم نووي يعيد البشرية إلى العصر الحجري، أما في القرن الحالي، فقد أُضيف لهذا الخوف خوف من الطبيعة. خوف من اختفاء جزر ومدن بسبب ذوبان الجليد، وخوف من الفيروسات، وخوف من كواكب “تائهة” ما فتئت تتربص بكوكبنا.
إنه “الخوف السائل” أو “متلازمة تيتانيك”. خوف من كوارث تقع علينا جميعا دون تمييز. لنعيش في عالم يفتقر أيما افتقار للأمان واليقين والأمن.
فمئات الملايير تصرف سنويا في تصنيع وشراء أسلحة لا تستعمل أبدا، ميزانيات ضخمة كان يمكن أن تشفي ملايين المرضى وتطعم ملايين الجوعى وتؤوي ملايين المشردين والنازحين. فقط لأننا كأمم خائفون، وعلينا أن نخوف الآخرين من مخاوفنا. وفي كل الحالات هنا وهناك نجد أن المخاوف والهواجس هي نفسها. صحيح أن البشرية اليوم لم تعد تبني القلاع والأسوار الشاهقة حول مدنها، لكنها إذ لم تعد تفعل ذلك، لا يعني أنها أضحت آمنة من الخوف، بل فقط أضحت تعيش بالخوف ومعه.
هكذا أعطت الحداثة نتائج عكسية تماما، وما كان يعتقده الأنواريون من قدرات خارقة على التنبؤ بمصير العالم والتحكم في هذا المصير، في إطار ما أسموه بـ”التقدم”، بات مجرد حلم رومانسي. وما كان اعتقادا بالقدرة على تغيير العالم وتغيير القدَر بدل الاكتفاء بتفسيره، أضحى مجرد وهم كبير. فمقولات كالعقلانية والبيرقراطية والدولة والفردانية والعلمانية، أنتجت تغذيات سلبية وآثارا جانبية حولّت الخوف إلى”خوف سائل”، وألقت مسؤولية الأمن على الأفراد أولًا، ثم باعت هؤلاء الأفراد وسائل الحماية الذاتية، أو لنقل باعتهم الشعور بالأمان بالتقسيط مدى الحياة. فهم يدفعون للتأمين خوفا من قوى الطبيعة، ويدفعون لتسليح الجيوش خوفا من البشر، ويدفعون لشركات الدواء خوفا من الأمراض.
لذلك سيتوجب علينا أن نراقب مكونات الأغذية التي نتناولها، ونوعية المياه التي نشربها، ونوعية الأسرة التي ننام فوقها، والأجهزة التي نستعملها، فهناك دوما خوف من أن نسقط ضحايا مواد غير أصلية ومُقلَّدة. وخوف من أن تتسرب إلى أجسادنا كائنات مجهرية تفتك بنا.
إنها الحداثة التي لم تقض على الخوف بل قامت بتدويره ليصبح دائما وملازما لحياتنا.