شوف تشوف

دين و فكر

الخوراج حالة متجددة غير تاريخية

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة الجديدة (الأسئلة المشكلة في تراثنا الإسلامي)، توصلنا إلى نتيجة مهمة، وهي ضرورة الفصل بين الحالات الثلاث: الخروج، والخوارج، والبغي. ثم في الحلقة الثانية طرحنا سؤالا آخر: هل جاء في القرآن والحديث تعيين بعض الفرق المبتدعة والمنحرفة في تاريخنا الإسلامي؟ ووصلنا لنتيجة مهمة ثانية، وهي أن الخوارج هم الفرقة الوحيدة التي جاء الإخبار بها وتعيينها صراحة في النصوص الشرعية… وما عدا ذلك من الفِرق لم يصح منه شيء. لذلك انتهينا إلى هذا السؤال: لماذا حرص النبي عليه الصلاة والسلام أن يحذرنا من الخوارج؟
أظن أنني الآن أعرف جزءً من الجواب عن هذا الإشكال الذي أدركته منذ بضع سنين، وخلاصته أن حالة الخوارج حالة متجددة في الأمة، وليست وضعا تاريخيا مؤقتا، وأن هذه الحالة مدمرة للأمة ومسيئة لحاضرها ومستقبلها.
كان كثير من أهل العلم يعتقدون أن الخوارج فرقة اندثرت وخرجت من مسرح التاريخ، ويذكرون من فروعها النجدات والأزارقة والصفرية.. في حوالي سبعة عشر فرعا. وساعد على هذا التصور أن أكثر هذه الفرق عاشت ونشطت في القرنين الأول والثاني، أي في عهد الأمويين وبداية عصر العباسيين، وبعد ذلك انفضّ عنها الناس وصارت جماعات صغيرة ما لبثتْ أن ذابت في أوساط الجمهور الأعظم من الأمة والذين يُلقبّون بأهل السنة والجماعة.
لكن الاستقراء التاريخي يدلّ على انبعثات متكررة، من حين لآخر، في هذا البلد أو ذاك للخوارج، وذلك تحت مسميات جديدة. لم يعد يوجد الأزارقة أو النجدات مثلا، لكن كان يظهر ما يشبههم، ثم يختفي، ثم يظهر شكل آخر باسم آخر. وهذا مكمن «الخطأ» في فهمنا القديم والحديث أيضا للظاهرة. كنا نتعامل معها باعتبارها ظاهرة تاريخية توجد في زمان ومكان محددين، لذلك ظننا أنها انقرضت، بينما الحقيقة أنها ظاهرة مستمرة، قد تنقطع، لكنها ما تلبث أن تعود بصورة جديدة، حتى بشعارات «سنيّة» أيضا. هذا ما أراد نبينا عليه الصلاة والسلام أن ينبّهنا إليه: الخوارج حالة لا تاريخ، لذلك وصفها وذكر بعض علاماتها، منها: هذه الجماعة تخرج فينا، أي في الأمة، وما قال منها. لذلك يبدو أن الخوارج في الأكثر كانوا يخرجون من أوساط أهل السنة وفي عالمهم، بينما ظهر الغلاة في أوساط الشيعة وفي دنياهم. ومنها أن القاعدة الأساسية لهذه الجماعة هم شباب صغار السنّ، يقلّ بينهم الشيوخ والكهول، ومنها أن لهم قدرة على التعبّد أكثر من غيرهم. ومنها أنهم يقرؤون القرآن، وتِبعا له الحديث، لكنهم لا يفقهونهما لأنهم لم يتعلموا ولا جلسوا للتفقّه. ولماذا لا يتعلمون؟ لأنّ لهم صفة باطنية قبيحة وهي الكِبر، يحسبون أنهم أتقى الناس وأفضلهم وأن بيدهم مفاتيح الإيمان والكفر. لذلك ذكر نبينا المصطفى علامة أخرى لهم، وهي التكفير. يُسارعون إلى تكفير المسلمين بحسب هواهم، ويحبون ممارسة التكفير كأنهم يجدون فيه متعة. ولهم علامة أخرى هي نتيجة للتكفير، وهي رفع السلاح في وجه الأمة حُكّـاما ومحكومين، وكانوا لا يتورعون عن سفك الدماء وبغزارة، حتى وصفهم الحديث بأنهم «يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان». فسلِم منهم أهل الكتاب والمشركون، وما سلم من سيوفهم المسلمون أهل القبلة ولا حتى صغارهم، فقد كان الأزارقة يقتلون أطفال المسلمين أيضا ويتلون قوله تعالى على لسان نوح: (ولا يلدوا إلا فاجرا كفّارا). لذلك أتعب الخوارج الدول الإسلامية المتعاقبة وشغلوها أحيانا عن الجهاد واستنزفوا كثيرا من طاقات الأمة وإمكاناتها فيما يشبه التمرد المسلح الدائم والذي لا يحقق أيّ نتيجة، لأن المسلمين تاريخيا رفضوا الخوراج ولم يتقبلوا منهجهم.
هل هذه الانحرافات كلها، وهذه الأضرار المتنوعة التي أحدثها القوم هي سبب أمر النبي عليه السلام بقتالهم؟ وكيف نتعامل معهم اليوم؟ كيف نمنع الظاهرة في البداية، ثم كيف نخفف من مخاطرها إذا وقعت؟ وقبل ذلك كيف نميّزهم في عصرنا حيث الفوضى الفكرية والسياسية ضاربة بأطنابها، حتى إن بعضهم يسمي المطالبين السِّلميين بحقوقهم المشروعة بـ: «خوارج العصر». وهذا كذب في الدين لا يجوز.
الموضوع مهم ومعقّد، فهو مثلا من أسباب الإرباك الحاصل للحراك السوري اليوم، إذ يرى تنظيم الدولة أنه خلافة إسلامية شرعية وأن الرافضين لها خوارج، لذا استحلّ دماءهم وأموالهم، بينما ترى الفصائل الأخرى، بما فيها جبهة النصرة، أن هذا التنظيم خوارج، وإن كانوا متردّدين في قتاله واحتاروا في التعامل معه.
يجب فتح الموضوع وإعادة قراءة تاريخنا في ضوء هذا الفهم «الجديد»، وهي مهمة مفاجئة لم نكن مستعدّين لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى