شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الخوارج أحياء لم يموتوا

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

إن معركة صفين عام 32 هـ كانت أكبر من معركة، ففيها رسم مصيرنا حتى هذه الساعة، بين شيعة وسنة وخوارج. وحسب «مالك بن نبي»، كانت نقطة تحول أساسية في مخطط حضارة الإسلام. وبتعبير النيهوم توقفت فيها مسيرة الإسلام، قبل أن تبدأ. ويقسم مالك بن نبي مخطط الحضارة الإسلامية، وفق إحداثيات الزمن والتطور، إلى ثلاث مراحل تاريخية متطابقة مع التطور النفسي، بين مرحلة «الروح» و«العقل» و«الغريزة»، وهو تطور سارت فيه أكثر من حضارة مرت على وجه الأرض واندثرت. ولا تشكل الحضارة الإسلامية شذوذا عن قانون انهيار الحضارات.

يقول إن الإسلام انطلق بزخم هائل من فيض «الروح» حتى معركة صفين. وعند معركة صفين وقع الانكسار في المخطط، ومعه توقفت انطلاقة الروح لتتحول إلى دولة ونظام ويسميها فترة «العقل»، التي دامت حتى زمن «ابن خلدون» في القرن الرابع عشر للميلاد. وفيها حافظت الحضارة على تحليقها، كما يحدث في الطائرة التي تستهلك أعظم الطاقة في الصعود، ثم تحافظ على اندفاعها بقليل من الطاقة بين ذرى الغمام.

وبين ابن خلدون وزمننا الحالي دخلنا مرحلة انحطاط الحضارة، وهي انفلات «الغريزة» مقابل صعود الروح. كما يحصل مع الطائرة حين تسارع إلى الأرض بأقل قدر من الطاقة. حين لا تبق في المخازن طاقة إضافية لمتابعة الرحلة. وجرت العادة أن الصعود يحتاج إلى طاقة، أما الهبوط فلا يحتاج إلى طاقة.

والمهم في معركة صفين أنها تؤرخ لعصر تشظي المجتمع الإسلامي إلى ثلاث طوائف: نظرية الدم النبوي وفريق متطرف لا ينقصه الحماس بقدر الوعي. وفريق انتهازي وظف الإسلام لحكم العائلات. ومعه فقد المجتمع الإسلامي تماسكه الداخلي، وانفك الرأس الروحي عن الزمني. وتلقى المجتمع الإسلامي الجرعة السمية الأولى التي عرضته لانتفاضات مروعة، كما يحدث في تسمم الدم. وتحولت الخلافة الإسلامية إلى دولة بيزنطية، بجيش من المرتزقة يفتحون البلاد على مبدأ كرة الثلج.

وكان الظن أن الخوارج انقرضوا، ولكن يبدو أن أرواحهم انتقمت على نحو غير متوقع. وبدأت حركات الإسلام السياسي المعاصرة بإعادة الحياة إلى جثث الخوارج، ولكن نظرية الخوارج هي غير نظرية الأنبياء، كما أن فقهاء الأمويين أيضا ليسوا على نظرية الأنبياء. فالخوارج رأوا الخروج على الحاكم الظالم وقتله، أما فقهاء السلاطين فكرسوا الخضوع للحاكم الظالم، ولو بقتل الحسين. لأنه وفق وجهة نظرهم، من خرج على الجماعة اقتلوه كائنا من كان، ولو كان حفيد النبي ومحمد ذو النفس الزكية. وهكذا تمت إبادة معظم آل البيت على يد الفقهاء، كما حصل في فتاوى شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية، بقتل كل إخوة السلطان، بمن فيهم الأطفال الرضع، لأنها فتنة والفتنة أشد من القتل.

ونظرية الأنبياء تقوم على عدم الطاعة، وليس قتل الحاكم (كلا لا تطعه واسجد واقترب). والسر أن قتل الحاكم وإزالة اللاشرعية باللاشرعية لا تأتي بالشرعية. وهو الذي حصل في كل التاريخ الإسلامي في مسلسل دموي محموم لقنص السلطة، حتى انقلابات البعثيين في التاريخ المعاصر. ومن أخذ السيف بالسيف يهلك. ومن أزال القوة بالقوة استبدل القوة بقوة جديدة، وتبقى القوة هي التي تهيمن على الرقاب. وعندما حرر عراق صدام كانت القوة، ومن الخارج فلم يتحرر. ونظرية الأنبياء هي ولادة الإنسان المحرر من علاقات القوة، وإزالة اللاشرعية بالشرعية. قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب. قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد.

ونرى اليوم حركات إسلامية تؤمن بالقوة في التغيير، وهي تعيد سيرة الخوارج. ويجب توقع انفجارات لا نهاية لها، لأن مناهج التعليم عندنا تشحن الوعي على مدار الساعة بمفاهيم الجهاد المغلوط. والشباب أجرأ على التنفيذ وأميل إلى التطرف. وحينما نتلو على أسماع الشباب آيات الجهاد والمفاهيم العنصرية من لعن أهل الكتاب، فيجب توقع حدوث حركات انتحارية، وهي موضة جديدة يحرض عليها مفتي موظف وسياسي ماكر. ما لم نوجد البديل من المقاومة المدنية على طريقة الأنبياء.

ومشكلة الجهاد المدني أو المقاومة السلمية أو كفاح اللاعنف، الذي ندعو إليه منذ ثلاثين سنة، لم يشكل تيارا يلتف حوله الشباب ويفرغوا طاقتهم فيه لثلاثة أسباب: عدم نشاط أصحابه بما يكفي. وغموض هذا النوع من المقاومة، فلا يخطر في بال أحد مقابلة العنف إلا بأشد منه. أما تحمله والصبر عليه وعدم التراجع أمامه، وعدم احتقان النفس بكراهية الخصم، فهو شيء انقلابي وصعب التصور على العربي المملوء بمفاهيم الانتقام والثأر والعنف والقسوة.

وثالثا وجود المؤسسات الحزبية التي تصطاد الأتباع، وتلقحهم بفكر عنفي وتخلق عندهم عقلا حزبيا مغلقا، ومناعة ضد أي فكر نقدي. في وسط تحكمه أنظمة قمعية وثقافة تقليدية تعيد إنتاج نفسها، ووضع عام منهار وشباب محبط وإنفوميديا مضللة تلمع الهزيلين وتنحي الفلاسفة، وتنمي الدروشة الدينية والسياسية.

نافذة:

كان الظن أن الخوارج انقرضوا ولكن يبدو أن أرواحهم انتقمت على نحو غير متوقع وبدأت حركات الإسلام السياسي المعاصرة بإعادة الحياة إلى جثث الخوارج ولكن نظرية الخوارج هي غير نظرية الأنبياء

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى