الخطابي اعتمد على الذاكرة خلال صياغة مذكراته في وقت قياسي وظروف صعبة
مذكرات لاريونيون :كتب تنقل تفاصيل حياة ابن عبد الكريم الخطابي في لاريونيون
تعرفت (أنا روني غاليسو) على التهامي الأزموري وهو لا يزال طالبا في سلك الدكتوراه ومكلفا، في نفس الوقت، بالتدريس في شعبة اللغة العربية بجامعة Nouvelle Expérimentale de Vincennes حيث كنت أعمل أستاذا للتاريخ الحديث.
النسخة الأصلية مفقودة والمترجم انتحر
كنا ندرس في قاعتين متجاورتين مما سمح بتواصلنا المستمر بالإضافة إلى لقاءاتنا الأسبوعية، الأمر الذي مكنني من مواكبة عمل الترجمة التي كان ينجزها ودعمه على المستوى النفسي على وجه الخصوص، نظرا لصعوبة تجاوزه لأزمة الشعور بالذنب جراء مقتل المهدي بن بركة. سينتهي به الأمر بالانتحار سنة 1971 بعدما أنهى ترجمة المذكرات وإدراج الهوامش التي كانت تتضمن إضافات من طرفي. تسلمت الترجمة الفرنسية كاملة من رفيقته الفرنسية. ورغم كل المحاولات والبحث الطويل عن المخطوط العربي، بما في ذلك التعاون من جانب جاك بيرك نفسه، لم يتم العثور على هذه النسخة العربية.
وستتضافر مجموعة من الظروف ستسمح بإمكانية إصدار عمل يجمع النصين معا. فخلال الندوة السنوية المنظمة في الحسيمة في فبراير من سنة 2013 تخليدا للذكرى الخمسين لوفاة محمد بن عبد الكريم في القاهرة، أخبرني (أنا ماريا روسا ذي مادارياغا) جمال أمزيان نجل محمد سلام أمزيان قائد انتفاضة 1958-1959 بأن شقيقه محمد أمزيان يتوفر على نسخة عربية من المحتمل جدا أن تكون لتلك المذكرات التي يتم البحث عنها.
وفي شهر ماي من نفس السنة، خلال ندوة انعقدت في أمستردام، أكد لي محمد أمزيان نفسه وجود هذه النسخة العربية وأخبرني بحيثيات توصله بها، ثم وافاني في اليوم الموالي بالنص الذي نسخه محمد البارودي بخط يده عن نسخة أخرى توجد في حوزة سباطة التي هي بدورها نسخة عن تلك التي وصلت إلى يد التهامي الأزموري، علما بأن عثمان بناني يتوفر بدوره على نسخة أخرى توصل بها من سباطة.
«العثور» على النسخة العربية
بعد «العثور» على النسخة العربية كان من اللازم إخضاع
النسختين الأصلية والمترجمة لمقارنة دقيقة، وغني عن القول أن نجاح هذه العملية رهين باللجوء إلى أشخاص أكفاء من الناحية اللغوية والتاريخية تعهد إليهم هذه المهمة، لذا اقترحت أن يقوم بهذه المهمة الصعبة نفس الفريق الذي ترجم إلى العربية كتابي عن محمد بن عبد الكريم، والمكون من عبد المجيد عزوزي وعبد الحميد الرايس ومحمد أونيا، بالإضافة إلى جمال أمزيان، وقد خلص الفريق إلى أن النصين العربي والفرنسي متطابقان وعمل على ترميم بعض الهفوات في الترجمة الفرنسية وإضافة مقدمة وهوامش لإغناء هذا الإصدار المزدوج وتيسير الاستفادة منه.
وتعود مهمة تقديم النص الفرنسي إلي وإلى زميلي غاليسو، وذلك بتصحيح أو حذف بعض الهوامش التي أوردها الأزموري. وإذا كان غاليسو قد أدخل بعض التعديلات على هذا النص أثناء ترجمته، فإن فهما أفضل للنص الفرنسي يقتضي إضافة هوامش أخرى وتصحيحات تفرضها المستجدات التي سمح الاطلاع على الأرشيفات بالتعرف عليها، الأمر الذي لم يكن متاحاً للمترجم في الستينات من القرن الماضي.
وما يجدر ذكره بخصوص هذه المذكرات أن المعطيات التي أوردها محمد بن عبد الكريم تتطابق مع تلك التي تمكنا من الاطلاع عليها في مختلف الأرشيفات. نسجل مع ذلك، بعض حالات غياب الدقة في سرد الأحداث من الناحية الكرونولوجية بالخصوص، لكن لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن الأمير اعتمد كلياً خلال صياغة هذه المذكرات على ذاكرته وحدها دون أية وثيقة يستند إليها، كما اضطر لإنجازها في وقت قياسي قصير وفي ظروف صعبة.
رأي فريق التحقيق.. التعريف بالمخطوط
أولا، من حيث الشكل:
عدد النسخ: ظل الترجمان موريس صاني يحتفظ بالمخطوط الأصلي لهذه المذكرات منذ عودته من جزيرة لاريونيون إلى أن تقاعد، فسلمه للمستشرق الفرنسي المعروف جاك بيرك الذي سيعهد بدوره إلى المرحوم التهامي الأزموري بترجمته إلى اللغة الفرنسية. وبعد وفاته تمكن السيد سباطة من الحصول على صورة النسخة العربية الأصلية، فأمدها للسيد محمد البارودي الذي قام باستنساخها بيده.
وتجدر الإشارة إلى أن كلا الرجلين عبد الفتاح سباطة ومحمد البارودي كان منفيا سياسيا ينتمي إلى اليسار المغربي المعارض المقيم بديار المهجر ومن رفاق المهدي بن بركة وبالتالي التهامي الأزموري، الأمر الذي سمح بتوصلهما بنسخة من هذه المذكرات. فقد اقترنت حياة عبد الفتاح سباطة المزداد في نونبر 1937 والمتوفى في نفس الشهر من سنة 2007 بالكفاح في سن جد مبكرة كفدائي في الخلايا السرية ثم كمحارب في جيش التحرير ثم كمناضل سياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. صدرت في حقه أحكام بالسجن والإعدام واضطر للفرار والعيش في المنفى لسنوات عديدة. ولا تختلف حياة محمد البارودي كثيرا عن حياة زميله سباطة، فهو من مواليد 1935 وفارق الحياة أيضا سنة 2007. انخرط بدوره في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان من مؤسسيه المهدي بن بركة وفي المنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب إسوة بالتهامي الأزموري وفي منظمة إلى الأمام. كما اضطر لمغادرة المغرب منذ سنة 1963 ليعيش في المنفى في الجزائر وفرنسا ثم بلجيكا إلى تاريخ وفاته، رافضا العودة إلى وطنه رغم العفو الملكي سنة 1994. وفي 13 نونبر 2005 سيسلم محمد البارودي للزميل الأستاذ محمد أمزیان ببلجيكا النسخة التي كان يتوفر عليها من مذكرات لاريونيون. ويضيف محمد أمزيان بشأن النسخ الأخرى من هذا المخطوط: «علي أن أذكر أن نسخة رقمية من المخطوط توجد بحوزة الأميرة عائشة الخطابي المقيمة في الدار البيضاء، وقد سلمتها إياها قبل بضع سنوات، ونسخة رقمية أخرى توجد في حوزة أخي جمال القاطن بالحسيمة، فضلا عن النسخة التي أرسلتها إلى الدكتورة ماريا روسا ذي مادارپاغا».
ونشير أيضا إلى أن الأستاذ المرحوم عثمان بناني كان يتوفر على نسخة أخرى توصل بها من السيد سباطة كما يقول روني غاليسو وماريا روسا ذي مادارياغا. أما المرحوم الأزموري فقد اعتمد في ترجمته لهذا المخطوط على النسخة الأصلية، نشير، فضلا من هذا، إلى أن النسخة التي قمنا بتحقيقها هي تلك التي استنسخها المرحوم البارودي، والفضل يرجع إلى صديقنا محمد أمزيان في حصولنا عليها. وعدد صفحاتها لا يتعدى أربعاً وثلاثين، كما أن المخطوط لا يحمل تاريخا ولا عنوانا ولا مقدمة، غير أننا نعلم أن هذا المخطوط حرره الأمير الخطابي مباشرة بعد وصوله إلى جزيرة لاريونيون ما بين شهري أكتوبر ودجنبر تاريخ رجوع موريس صاني إلى فرنسا، وأن مدة تدوينه استغرقت حوالي شهر.
ثانيا، من حيث المضمون:
عندما قارنا بين النسخة الفرنسية التي ترجمها الأزموري انطلاقا من النسخة العربية الأصلية، وتلك التي استنسخها البارودي وجدناهما متطابقتين، الأمر الذي يجعلنا نطمئن بخصوص مصداقية النص الذي نعرضه للتحقيق والدراسة. وتأكد لدينا انتساب المخطوط الأصلي إلى الأمير من خلال مؤشرات مختلفة، نذكر منها أسلوبه المتميز في الكتابة واستعماله لمعجم خاص من قبيل «الأشياخ» و«القرطوس» و«البابور» و«الدشور» و«المراهين» و«الأميال» بمعنى ميول مثلا، وهي ألفاظ غير متداولة في اللغة الحالية، وكذا إيراده معطيات غير متوفرة للعموم نذكر منها على سبيل المثال تقييمه للجيشين الفرنسي والإسباني ومواقف بخصوص شخصيات تفاعلت مع المقاومة كالريسوني وعبد المالك وعمار بن احميدو والمذبوح وآخرين.
بالإضافة إلى أسلوبه الذي يجمع بين الدقة والإيجاز في نفس الوقت، إيجاز قد يؤدي إلى الغموض أحيانا.
وغني عن البيان أن مذكرات محمد بن عبد الكريم الخطابي يمكن تصنيفها إلى صنفين: الصنف الأول دون إبان مرحلة نفيه من طرف السلطات الفرنسية منذ استسلامه في 27 ماي 1926 وترحيله إلى جزيرة لاريونيون، وإلى غاية نزوله أو إنزاله بمصر سنة 1947. أما الصنف الثاني من تلك المذكرات فقد دون بمصر سواء منها تلك التي تناوب على تحريرها كتاب من المغرب والجزائر ومصر، أو تلك التي قد يكون ابن عبد الكريم حررها بيده أو من طرف شقيقه السي امحمد.
مذكرات مرحلة المنفى
إذا كانت بعض المذكرات التي كتبت بمصر قد وظفت في بعض الدراسات التاريخية، فإن تلك التي تعود إلى مرحلة المنفى لم يعرف منها لحد اليوم سوى نوعين نشرا باللغة الفرنسية أحدهما نشره الصحافي الفرنسي روجي ماثيو Roger Mathieu في كتاب سبق ذكره يحمل عنوان Mémoires d’Abd-el-Krim أو «مذكرات عبد الكريم»، وهو أصلا عبارة عن مقابلة أجراها الصحافي المذكور مع ابن عبد الكريم وشقيقه امحمد على متن الباخرة «عبدة» التي كانت تقلهما من ميناء الدار البيضاء في اتجاه مارسيليا (جزيرة فريول) قبل أن يستأنفا رحلة المنفى من هناك إلى جزيرة لاريونيون على ظهر باخرة «الأميرال بیير».
وعن طريقة حصول ماثيو على أقوال الأمير، يقول في مقدمة كتابه إنه بعد علمه بخبر استسلام محمد بن عبد الكريم توجه للتو إلى ترجيست بصفته مراسلا حربيا تابعا لصحيفة Le Matin. انتقل أولا إلى فاس ثم معسكر بورد قبل أن يستقل طائرة خاصة إلى ترجيست. وأضاف أنه أقر العزم على مقابلة الأمير والحصول على تصريحاته مهما كلفه الأمر. كان من الصعب مقابلته وهو أسير مقارنة مع الفترة التي كان فيها حرا طليقاً وزعيما نافذاً في عرينه المنيع في الريف بسبب الحراسة الصارمة المضروبة حوله، لذا كان من الضروري التحايل على يقظة الجنرال موجان وتجنب التحقيقات المستمرة للضابط الترجمان صاني الذي أسندت إليه مهمة مراقبة الزعيمين الريفيين. وأردف أنه من بين جميع الصحافيين الذين كانوا على متن الباخرة «عبدة» كان الوحيد الذي تمكن من مقابلة الأخوين محمد وامحمد الخطابي طيلة الرحلة من الدار البيضاء إلى فريول، وذلك بطرق لا يستطيع البوح بها. هكذا جالس الاثنين معا خلال أيام الرحلة وتحدث إليهما في فترات الليل بالخصوص، لذا فإن معظم المادة المقدمة في المذكرات تعود إلى ما دونه بناء على الإملاء المباشر للأخوين بالإضافة إلى بضع ورقات حررها الأمير بيده. ومن هذا المنطلق تعتبر هذه المذكرات الوثيقة التاريخية الوحيدة وذات الأهمية البالغة التي يشهد على مصداقيتها توقيع محمد بن عبد الكريم وعبارته:
«إني أشهد على نفسي أن الكلمات التي تنشرها الجريدة «الماتان» هي التي ترجمها أخي سي امحمد وبإملائي».
هكذا نلاحظ أن الأمير أراد بعبارته السالفة وتوقيعه الإشهاد على صحة تصريحات محددة للصحيفة المذكورة وليس المذكرات التي سيحررها ماثيو لاحقا مع الكثير من الإضافات والتحوير.