الخصال الثلاثة لحكومة الغد
مرت قرابة عشر سنوات على تسيير أول حكومة بعد الدستور الجديد لدفة الحكم، ومنذ الآن بدأنا نرى غبار معركة الانتخابات المقبلة يعلو، وإذا كان من خاسر كبير في نهاية هذه الولاية الحكومية الطويلة فهي السياسة، أو تحديدا معنى السياسة.
وأمثال هؤلاء السياسيين عندما يفشلون في تدبير الملفات التي تعهد إليهم يتهمون مباشرة من ينتقدون أداءهم ويشككون في جدواهم، وعلى رأسهم نحن الصحافيين، أو من لا يزال يشتغل بالصحافة ولم يغيرها بمهنة “تاطبالت”.
إن السياسة هي، عندما تقبل أن تتخلى عن «لعب» دور المعارضة وتختار الانتقال إلى تذوق عسل الحكومة، هي أن تقبل بقريص النحل، وكما يقول المغاربة «اللي بغا سيدي علي يبغيه بقلالشو».
إن أكبر عملية تشكيك في العمل السياسي وفي جدوى الانتخابات عرفها التاريخ السياسي المغربي كانت على يد الأحزاب السياسية نفسها، وخصوصا الأحزاب التي كانت في السابق تحتكر الأصل التجاري للمعارضة، وعلى رأسها العدالة والتنمية.
ويجب أن يكون المرء أبله لكي لا يدرك أن هذا الحزب عندما انتقل إلى ممارسة السلطة أبان عن قدراته «الدفينة» في رياضة القفز على الحواجز. هكذا تنكر زعماء هذا الحزب لكل الخطابات السياسية التي كانوا يرفعونها في السابق، وفشلوا فشلا ذريعا في إدارة الملفات التي أسندت إليهم. ولطالما دقت المنظمات الدولية ناقوس الخطر منبهة إلى أن هناك خللا عميقا في دواليب العدالة المغربية والتعليم المغربي ونظام الرعاية الصحي المغربي. لكن الجميع صم أذنيه، وعوض ذلك وجهوا ألسنتهم الحادة نحو الصحافة المستقلة، فهم يريدون فقط من الصحافة أن تصفق لهم كما تعودوا دائما، وعلى الصحافيين أن يكذبوا على الناس بالأخبار المتفائلة وأن يقولوا لكل وزير يرونه راكبا فوق قصبة “مبروك العَوْدْ”.
شخصيا أعتقد أن المغاربة يئسوا من السياسة لأنهم فهموا أن ما يرونه أمامهم ليس سياسة، وإنما سيرك سياسي يبعث على الضحك، لكنه ضحك كالبكاء.
المغاربة اليوم ليسوا هم مغاربة السبعينيات أو الثمانينيات أو التسعينيات. اليوم يتابع المغاربة عبر هواتفهم والقنوات الفضائية انتخابات البلدان الديمقراطية ويرون الفرق الشاسع بين رجال السياسة عندنا ورجال السياسة عندهم.
يتابعون المناقشات السياسية عالية المستوى في البرامج التلفزيونية ويتحسرون على برامجنا السياسية التي تأتي إليها الوجوه نفسها التي تعودنا على رؤيتها قبل ثلاثين سنة لكي تردد الكلام الخشبي نفسه.
السياسة هي المحاسبة أولا وأخيرا. وعندما يظل وزير في الحكومة خمس سنوات كاملة دون أن يكون مجبرا على تقديم الحساب في الأخير، ثم يغادر مقر الحكومة وكأن لا شيء حصل، فهذا شيء لا يتسبب فقط في تيئيس المواطنين من السياسة وإنما في تيئيسهم من بلدهم أيضا.
عندما نكتب عن فضائح بعض السياسيين وتجاوزات بعض الوزراء، كحرمان بعضهم لمستخدميهم من حقهم في الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي، ونقدم الدليل على ما نقول، ولا يتجرأ أحد على فتح تحقيق أو إرسال لجنة لتقصي الحقائق، أو إجبار المعنيين بالفضيحة على تقديم استقالتهم على أقل تقدير، فهذا كله يفرغ العمل السياسي من معناه الأساسي ويحوله إلى مجرد تمثيلية سخيفة يؤدي فيها الوزراء والمسؤولون دور الممثلين والمواطنون دور المتفرجين والصحافيون دور الكومبارس.
هذه إذن ليست سياسة وإنما صورة كاريكاتورية رديئة للسياسة.
لذلك فقد يئس هؤلاء المواطنون المنسيون وراء الجبال من السياسة وما يأتي منها، وفهموا أن الأحزاب تعتبرهم مجرد أصوات انتخابية تحتاجها بين انتخابات وأخرى لملء صناديق اقتراعها، وبعدها تتركهم للعزلة والثلج والجوع يموتون أمام أنظار العالم كما يحدث كل شتاء في القرى النائية.
ماذا ستعني السياسة بالنسبة إلى هؤلاء المنسيين على أطراف الخريطة إذا لم تكن هي شق طريق سالكة نحو المدينة، وبناء قناطر فوق الوديان حتى لا يضطر السكان إلى عبورها بالحبال كما لو كانوا في الأدغال، وتشييد مستشفى صغير لإسعاف النساء الحوامل والمرضى، ومدرسة لتعليم الأطفال حروف الهجاء. هل السياسة هي أن يتسلموا بطاقاتهم الانتخابية ويذهبوا للتصويت على مرشح سيختفي في الرباط بمجرد ما سينجح ويتركهم وحيدين أمام عوامل التعرية ينقرضون ببطء؟
هل السياسة هي أن يلطخوا أصابعهم بحبر مكاتب التصويت ويعودوا إلى قراهم مرتاحين من كونهم قاموا بواجبهم الوطني على أحسن وجه، حتى ولو أن هذا الوطن لم يقم بواجبه معهم قط؟
العمل السياسي الحقيقي والانتخابات الحقيقية لا أحد يشكك فيها، بل إننا جميعا نطالب بها يوميا، لأنها المعبر الوحيد السالك لهذا الشعب نحو الديمقراطية، فالسياسة في نهاية المطاف إذا لم تشارك فيها فإنك رغم ذلك تظل تحت رحمة قرارات الذين يشاركون فيها.
ما نحاول أن نتصدى له يوميا هو تمييع العمل السياسي وتسطيحه واستغباء المواطنين والكذب عليهم بخلط الدين بالسياسة، وهذا ما رسخه حزب العدالة والتنمية طيلة العشر سنوات التي قضاها في الحكم بعدما قدم إليه راكبا صهوة شعار محاربة الفساد والاستبداد والإصلاح من الداخل، فانقضت السنوات العشر واكتشفنا أن الإصلاح من الداخل الذي كان يتحدث عنه بنكيران هو إصلاحه لغرفة نومه، أما العثماني فقد استسلم منذ دخوله مقر رئاسة الحكومة وتذوقه لشهيوات رحال.
لذلك فمعركة المغاربة إذن ليست ضد السياسة والانتخابات وإنما ضد من يريد أن يستعمل السياسة والانتخابات لمصالحه الخاصة ضدا على المصلحة العامة، خدمة لمشاريع خارجية تهندس المستقبل والخرائط حسب مصالحها.
ونحن كصحافيين مهمتنا الأولى والأخيرة هي إخبار الرأي العام وفتح عينيه على ما يقع لا أن ندافع عن تجربة حكومية كيفما كانت، فالصحافي المستقل لديه وظيفة واحدة ووحيدة وهي أن يراقب كل من يتصرف في أموال دافعي الضرائب، أي أن يلعب دور كلب الحراسة الشرس الذي يحرس بيت المال.
أما الدفاع عن الحكومة فمهمة الأحزاب المشكلة لها ومهمة صحافتها وأبواقها المنتشرة في كل مكان، فليست الأبواق ما نعدم في هذه البلاد.
وسواء عاد الحزب الحاكم لولاية ثالثة أو جاء حزب آخر غيره فإننا لن ندخر جهدا لكي نكون شرسين في هذه الحرب، سلاحنا الوحيد هو قلم الحبر وهدفنا أن تسترجع السياسة معناها النبيل، الذي هو الالتزام مع هذا الشعب والدفاع عن قضاياه وحراسة أحلامه من الدجالين وفقهاء الظلام وتجار الدين وتجار الحروب من كل نوع .
ولكل الذين سيختارون حكومة الغد ندعوهم إلى تأمل هذه الجملة التي قالها «وارنر نيفيت»، فهي تنطوي على عمق سياسي ما أحوجنا إليه اليوم :
«عندما تختار معاونيك يجب أن تراعي ثلاث خصال لدى المرشحين: الالتزام، الذكاء والحيوية. وإذا كانوا لا يتوفرون على الخصلة الأولى، فإن الخصلتين الثانيتين ستقتلان مشروعك».