الخروج عن سكة التاريخ
خالص جلبي
يمكن وصف وضعنا أنه أشبه بقطار خرج عن السكة، بعد تعرضه لحادث مريع، فركابه مذهولون بين مقتول وصريع ومجروح، وغائب عن الوعي، ومنهم من صحا وهو نازف يتأمل الكارثة.
نحن أمة خرجنا عن سكة الزمن، وإحداثيات التاريخ والجغرافيا، ضائعون في الزمن اللانهائي، شاردون من مركبة فضاء العصر نحوم في الفضاء الموحش، نعيش بدون أن نعيش، مواطن بلا وطن، جيل التيه والخوف والهزائم والديكتاتوريات واغتيال العقل وكرامة الإنسان بالطبنجة والمخابرات والمباحث السرية والحبوس، غائبون عن العصر، لم نشارك في صناعته، هو لنا مثل عالم الجن الأزرق، كما وصف ذلك في كتاب محمد حسين في كتابه (المسلم الحزين في القرن العشرين) أو كتاب (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟) لشكيب أرسلان، أو كتاب (التجارب المرة) لمنيف الرزاز، أو مذكرات الحوراني الحزينة عن رفاق الجملوكيات، وهو من أتى بهم وصنعهم ويداه أوكتا وفوه نفخ فغرق بالقربة البعثية. أو كتاب (رحلة ذهاب وعودة من الجحيم) للمغربي محمد الرايس، أو (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون، أو (ظلمة بين جدارين) للعراقي الجادرجي وزوجته، أو (السجينة) لبنت أوفقير المنحور المنتحر! وهي كما نرى عينات من طنجة حتى حلكو ونصيب، ومن الناصرية حتى الأصنام ونواكشوط والبقاع وبعلبك.
بالطبع قامت حركات وشخصيات وأحزاب بحرق المراحل، عسى أن يدخل العالم العربي المعاصرة، تمثلت في حزب التحرير الفلسطيني المقدسي لاستعادة الخلافة، والإخوان المسلمين المصرية لإعادة السياسي والاجتماعي، والترابي متأخرا في طرح مفهوم الحريات، تنظيم الأمة، وحزب الله اللبناني مستمدة زخمها من قم بالإحياء الشيعي لفكرة المهدي المنتظر، ومحمود طه السوداني في تحديث المفاهيم، وحزب العدالة والتنمية في المغرب وقد استفادوا من كتابي في النقد الذاتي وضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية، خاصة في تأسيس مفهوم اللاعنف في التغيير ومن قبل رشيد رضا والأفغاني ومحمد عبده في إيجاد صيغة جديدة لنشاط الأمة، والكواكبي الحلبي في تحليل مفهوم الاستبداد في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). ومالك بن نبي الجزائري في إحياء فكرة الحضارة الإسلامية، وجودت سعيد السوري في مفاهيم التغيير من خلال مفهوم اللاعنف، والشحرور الشامي من بوابة اللغة مثل لاعبي السيرك الذين يخرجون أرانب بيضاء من قبعات سوداء، هو ومحمد عنبر في كتابي (القرآن والكتاب) و(جدلية الحرف العربي). والمسيري في حركة كفاية وووضع الصهيونية تحت المشرط والمشرحة مثل تحليل أي جثة فاسدة. والنيهوم الليبي في نفض مفهوم المسجد عسى أن تعود للجامع وظائفه الحيوية، وسعيد حوى الحموي في التنظيم العسكري تحت عنوان (جند الله ثقافة وأخلاقا). والنورسي التركي بديع الزمان في حركة النور، والوردي العراقي في مشروعه للوعي التاريخي الاجتماعي تحت عناوين شتى مثل (وعاظ السلاطين) و(منطق ابن خلدون) و(خوارق اللاشعور) و(موسوعة التاريخ العراقي الحديث)، وفؤاد زكريا من جماعات الحداثة في مشروع سلسلة «عالم المعرفة» ونقد الصحوة الدينية، ومشروع عابد الجابري المغربي في تفكيك بنية العقل العربي. أو علي حرب في نقد النص ونقد النقد. والسؤال ماذا فعلت كل هذه المحاولات؟ هل كتب على يدها يقظة العقل العربي وهل دخلت الحداثة؟
ولكن ماهي الحداثة؟
يظن الكثير أنها كمبيوتر وطائرة وإنترنت وصاروخ وتقنية النانو، ومعرفة الكود الوراثي، وبناء اللبتونات في الذرة وتفتيت الزمن للفيمتو ثانية، فهل دخلنا الحداثة، أم أن هناك شيئا أبعد من هذا؟ وحاليا نقلت أدوات الحداثة من أماكن غريبة بأسماء مشابهة، ولكنها في الغرب كائنات حية وعندنا ديكور كما في مجالس الشعب والشورى، ولذا فنحن أمم مستهلكة غير منتجة، ولم تدخل بعد الماراثون الحضاري باحتساب الجهد والزمن، وحين لا يدخل الزمن في الحساب، لن نكون قد دخلنا الوسط الحضاري، وليس لنا مستقبل. والأمة في مركب مخيف من الاستعصاء لا تملك منه فكاكا وخروجا، بين مواطن أعمى، ومثقف مدجن، وصحافة مرتزقة، وفقيه غائب عن العصر، وسياسي كذاب ومسؤول أطرش.
وبذلك فالعالم العربي يتسمم على مدار الساعة بين الأفكار الميتة والقاتلة، فما هي الأفكار الميتة والقاتلة وما الفرق بينهما؟
أقرب شبه لها هي وحدة الدم التي تنقل للمريض حين الحاجة، ويجب توفر شرطين أساسيين فيها، أولا صلاحية الزمرة وتطابقها مع زمرة دم المريض (O,A,B.AB)، وثانيا زمن صلاحيتها، وأي خلل في هذين الشرطين يحول الدواء إلى سم زعاف.
كذلك عالم الأفكار؛ فإما تم نقل الأفكار الفعالة في موطنها بغير شروط نقلها، كما هو الحال في مجالس الشعب والمجالس النيابية ومجالس الشورى؛ فهي فعالة حيث أخذت في الدانمارك وكندا، ولكنها عندنا مجالس للنوم والتصفيق والموافقة العمياء، إنها كوميديا مضحكة ولكنها موسم بكاء وتراجيديا.
أما الأفكار الميتة فهي أفكار انتهى زمن فعاليتها كما في الأدوية المحرم استعمالها بعد انتهاء زمن صلاحيتها، هي تلك الأفكار التي كانت يوما ما فعالة، وانتهت فترة صلاحيتها، ولكن ما هي؟ وأين توجد؟ ثم من الذي يتجرأ فيقول هذه أفكار ميتة بطلت صلاحيتها، وإن تفسير ابن كثير مثلا انتهت صلاحيته، ولو بعث ابن كثير لأنكر كتابه، وبدأ في كتابة تفسير جديد وتاريخ جديد، فلا يمكن فتح جمجمة مريض بأدوات من عصر الفراعنة.
وكما كان لكل قرية مقبرة لدفن الجثث بخشوع، كذلك يجب أن نعد العدة لبناء مقبرة لدفن هذه الأفكار الميتة، فهذا هو وضع العالم العربي، والحداثة المزعومة، بين حداثيين مارقين، وأصوليين يريدون تقليد درة عمر بن الخطاب، مما يجعل عمر رضي الله عنه يضحك في قبره ويخرج عليهم بالدرة!
لقد فشلت التجربة القومية، وبارت الانقلابات البعثية العبثية، وماتت الشيوعية، وهلكت الديكتاتورية الناصرية، وحصدت الحركات الإسلامية فشلا بقدر جبل قاف. أين إذن المخرج؟