شوف تشوف

الرأي

الخرافات أسرع عدوى من الأوبئة

مالك التريكي

شاهدت قبل حوالي عامين فيلم «ماري كوري: شجاعة المعرفة» للمخرجة الفرنسية ماري-نويل سيهر الذي نجح في تصوير قصة كفاح هذه المهاجرة البولندية الفذة التي كانت أول من فاز من أهل العلم بجائزة نوبل مرتين (في الفيزياء والكيمياء). وكان مما لفت انتباهي، في المشاهد التي تضمنها الفيلم عن الندوة العلمية التي عقدت في بروكسل في خريف 1911، أن ماري كوري لم تشعر بالارتياح لأيّ من العلماء المشاركين، باستثناء ألبرت أنشتاين. لماذا؟
لأنه كان لطيف المعشر ولم يكن يأخذ نفسه مأخذ الجد المفرط. كما أعجبها فيه أنه كان قوي الوعي بسهولة الوقوع في الخطأ وبسرعة تحول الخطأ إلى سلطة معرفية سائدة طالما أن عددا كافيا من العلماء قد وقعوا فيه.
ومن القصص الكثيرة في هذا الشأن أن بين أهم خبراء علم الأحياء المجهرية في العالم اليوم خبيرا يعود الفضل الأول في نجاحه إلى أنه تجرأ على عدم الأخذ بـ”نصيحة” أسداها له أستاذه لما كان طالبا في السبعينيات. فقد نصحه الأستاذ بعدم إجراء بحوث عن الأمراض المعدية، قائلا إن هذه البحوث قد صارت عديمة الجدوى منذ أن أدى تعميم استخدام مختلف أنواع اللقاح والمضادات الحيوية إلى انحسار الجدري، والطاعون، والتفوييد، والملاريا وغيرها من الأمراض الوبائية الفتاكة.
تروي ساندرا سامبل هذه القصة في كتابها «أطلس المرض: خريطة الأوبئة الفتاكة» لتبرهن على مدى اتساع البون بين توقعات الأمس الخاطئة وحقائق اليوم المحبطة. ذلك أن الحاصل، بعد انقضاء حوالي خمسين سنة، هو أن البشرية لم تفلح في استئصال إلا مرض واحد، هو الجدري! وفي الأثناء ظهرت جراثيم وبكتيريات وعوامل أمراض جديدة قادرة على الانتقال من الحيوان إلى الإنسان أو على كسر حدود محاضنها الطبيعية المعهودة في المناطق المنعزلة للخروج والانتشار في العالم كله. وهكذا ظهر في الصين عام 2002 مرض سارس، وهو نوع لم يكن معروفا من الالتهاب الرئوي، فأدى إلى وفاة حوالي 800 شخص في آسيا وأمريكا وأوروبا.
وقد تم تعيين مرض إيبولا أول الأمر عام 1976 وظلت إصاباته محدودة ومنحصرة في إفريقيا الوسطى. ولكنه عاد فجأة عام 2014 ليصيب إفريقيا الغربية ثم ينتشر في بقية العالم. كما أن وباء فيروس نقص المناعة والأيدز، الذي انتبه إليه العالم أوائل الثمانينيات، قد أدى بنهاية 2016 إلى موت 35 مليون نسمة على الأقل. ولم تعرف البشرية وباء أكثر فتكا منه باستثناء الطاعون الأسود في منتصف القرن الرابع عشر.
وتضيف ساندرا سامبل أن صراع البشرية مع الأمراض في القرن العشرين لم يتعلق بظهور أمراض غير معروفة فحسب، بل إنه شمل أيضا ظهور تعينات جديدة وغريبة لأمراض قديمة.
وبحلول الأربعينيات كان مرض شلل الأطفال يصيب كل عام أكثر من نصف مليون شخص في العالم ممّن كان مصيرهم يتراوح بين الشلل والوفاة. ومن الأدلة على محدودية معارفنا، حسب قولها، «أننا لا نعلم حتى الآن لماذا اتخذت الأنفلونزا عام 1918 شكل جائحة عالمية حصدت أرواح ملايين من الشباب الأصحّاء»، علما أن الوفيات الناجمة عن الأنفلونزا كانت، حتى ذلك الوقت، لا تصيب إلا المسنّين والضعفاء. النتيجة: رغم أن العلوم الطبية حققت منذ أواخر القرن 19 تقدما خارقا، فإن الجراثيم والبكتيريات والعوامل الحاملة للأمراض الوبائية قد أثبتت أنها أشد من الإنسان قوة وأوسع منه حيلة.
هذا عن محدودية المعارف العلمية. فماذا عن ردود أفعال عموم الناس عند ظهور الأوبئة؟ يجيب صموئيل كوهن مؤلف كتاب «الأوبئة: الكراهية والتعاطف من طاعون أثينا إلى الأيدز» بأن ما تبيّنه المصادر التاريخية على مدى أكثر من 2500 سنة هو أن المواقف الغالبة هي مواقف الارتياب والاتهام والعنف ضد «الآخر»، أي الأجانب والفقراء والمستضعفين، بل وحتى ضحايا الأوبئة أنفسهم. إذ حالما يظهر مرض غير معهود فإن رد الفعل الأول عادة ما يكون الجزع. أما رد الفعل الثاني، فهو البحث عن «مذنب» يلعن ويدان ويحمّل المسؤولية. ذلك أن الأوبئة إنما تنشئ من الشائعات والخرافات ونظريات المؤامرات ما يتناسل ويعدي بأسرع من تناسل الجراثيم وعدواها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى