شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الخالدون (2-2)

 

بقلم: خالص جلبي

من المهم أن ندرك ثلاثا: كيف أكمل هذا الرجل صلى عليه وسلم عمله، خلافا لمن سبقه؟ فعيسى عليه السلام خطفته الأحداث من مسرح التاريخ، وموسى بعد أن زحف بالجموع في سيناء، خذله الناس، فقال: «ربي لا أملك إلا نفسي وأخي»، وإبراهيم بقي يتجول ويهاجر من بلد إلى بلد، قبل أن يستقر به المقام في شبه الجزيرة، ليبني أول بيت للناس.

الأمر الثاني كيف استطاع زمنيا أن ينهي عمله بسرعة أسطورية، في ربع قرن، فيبني جيلا ويصنع أمة، وهذا يعني أن رحلة تغيير المجتمع وصناعة الأمة يمكن أن تتم وفق هذه الخطة الزمنية.

والأمر الثالث أن هذا الرجل صنع الأمة، وفق سنن بشرية أرضية يمكن تتبعها وتقليدها؛ فهو لم يتبع سبيل المعجزات، بل سنن الأرض وكيف تتدفق بشكل روتيني في الحياة. وأهمية هذه النقطة أنه يمكن تقليدها والوصول إلى النتائج نفسها، وبذلك تخرج عن كونها خارقة.

حين يقرأ الإنسان في الثقافة الإسلامية التقليدية، يخرج بالانطباع الذي يقول إن السيرة كانت سلسلة من المعجزات والخوارق، وبذلك يتعطل الجهد البشري، وطالما كان خارقا فهي لا تحدث ولن تتكرر إلا لأشخاص محدودين في الزمن الممتد.

في هجرة الرسول (ص) لا ينتبه الكثير إلى رموز حصلت، ويكتفون بأن (سراقة بن مالك) مثلا، حين أراد الوصول إلى الرسول (ص) بعد أن اقتفى أثره وعرف إلى أين يتجه، أن خسفت الأرض بأقدام فرسه، فأنقذه الرسول (ص) من الحفرة، ثم وعده بسواري كسرى، حلي حاكم الفرس، ليحصل هذا على يد عمر رضي الله عنه بعد أن سقطت فارس، واستولى المسلمون على مخلفات الإمبراطورية ومنها سوارا كسرى اللذان كانا من حصة هذا الرجل، الذي كان يتتبع أثر رجلين هاربين من مكة.

هذا الأمر الخارق يقابله أمر (غير خارق) في رحلة التوجه بمسافة 400 كلم باتجاه المدينة، حين توجه جنوبا ولم يتوجه شمالا، فمن الناحية الجغرافية مكة هي أسفل من المدينة إلى الجنوب، ومن يرحل في هذه الظروف الصعبة، التي تتطلب مسيرة أيام على ظهور الجمال وهو مطارد أن يسرع باتجاه الشمال. ما فعله هذا الرجل (ص) أنه توجه إلى الجنوب ومعها تطويل المسافة، فهو يجب أن ينحني بخطواته مجددا باتجاه مكة، قبل أن يغير خط سير الرحلة إلى الشمال، فهذه خطة ذكية لعدم اقتفاء أثره.

هناك أيضا سؤال عن معنى الهجرة والارتحال من منطقة وقوم بعينهم إلى منطقة جديدة، وهي زاوية أيضا مهمة في فهم هذه الظاهرة. فأتباع عيسى مشوا على الطرق الرومانية المعبدة إلى روما، وكسبوا الأتباع في طول الرحلة من الأمصار التي سلكوها. وهذه الظاهرة قام المؤرخ البريطاني، جون أرنولد توينبي، بدراستها لتشكل ظاهرة في تاريخ الأنبياء والمصلحين الاجتماعيين.

ماو تسي تونغ سافر في رحلة عشرة آلاف كيلومتر ليؤسس في الشمال جمهوريته الصغيرة، قبل أن ينزل إلى الجنوب ليغير كامل الصين، وهنا لا يهم أو نحن لا نركز على السلبيات والإيجابيات، بقدر تركيزنا على الظاهرة. كذلك حصل مع بوذا الذي مشت دعوته إلى اليابان، وكانت في الهند. ومنه ذكر القرآن أنه ليس بدعا من الرسل.

وفي الحقيقة فإن ارتياع رسول الرحمة مما حدث معه له ما يبرره؛ فهو رجل بسيط عادي، بنى عائلة سعيدة وزوجة متفانية في حبه، وفجأة يرجع ليقول لخديجة: «لقد انتهى عهد النوم»، وعليه أن يقوم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا.

صدمة غير متوقعة من الغيب المجهول. عليه أن يتلقى كلمات ليتحدث بها إلى الناس في مفاهيم انقلابية، فماذا يتوقع؟ أحيانا أستغرق في الخيال، فأقول لو قام رجل من بيننا ليتحدث عن أمور في عالم الواقع ليقول إنها غير صحيحة. أتذكر من الوردي، عالم الاجتماع العراقي، حين يقول: «لنتصور أنفسنا في الطائف وقد جاءنا رجل يتحدث بأمور صعبة التصديق وغير مقبولة، حسب العرف الاجتماعي، يا ترى أين سيكون موقعنا؟ هل كنا سننصر هذا الرجل المهووس، أم نكون مع فريق الضاربين؟ بالطبع نحن الآن نقول لا.. لا.. سنكون من ينصره، فهو رسول الله. في وقتها لم يكن في أعين الناس رسولا، بل ساحرا وشاعرا وكاهنا ومجنونا يتربصون به ريب المنون».

صديقي مصطفى الصناديقي حدثته عن قانون الدجاجة المجروحة، قال: «نعم تعرفها والدتي جيدا، التي تربي الدجاج. حين تشذ في قن الدجاج دجاجة فيخرج منها الدم بجرح فهي لا تسعفها، بل ترى غرابة وخطورة في شريكة القن فتقبل على المصابة، ليس إسعافا ورحمة، بل نقرا في مكان الجرح حتى الموت».

هذا القانون الغرائزي ينطبق أيضا في مجتمع البشر، حين يشذ أحد الأفراد، فيرونه خطيرا وغريبا وعجيبا، كما ذكر القرآن مرادفات كلمة عجيب وعجب وعجاب، والسبب هو اجتماعي بيولوجي بحت؛ ونحن الأطباء نعرف من عالم الأمراض والعضوية أن المريض المصاب بالفشل الكلوي حين تزرع له كلية لإنقاذه، يرى فيها عضوا غريبا فلا يرحب به ويقاومه من خلال جهاز المناعة؛ فيقوم الأطباء بترويض جهاز المناعة وإضعافه إلى الحد الذي لا يقاوم الجسم الغريب، وهنا هي الكلية المزروعة، مع المحافظة على بضعة فرق هجومية لإنقاذ الجسم من إنتان ماحق. كذلك الحال في علم الاجتماع، حين يشذ فرد على القانون فيعتبرونه مجرما يجب التخلص منه، هكذا فعلوا بالأنبياء والمرسلين والمصلحين فقتلوا مارتن لوثر كينغ وغاندي، ونجا رسول الرحمة (ص) من مؤامرة خطيرة لقتله، ويكرر القرآن «وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب؟».

نافذة:

حين يقرأ الإنسان في الثقافة الإسلامية التقليدية يخرج بالانطباع الذي يقول إن السيرة كانت سلسلة من المعجزات والخوارق وبذلك يتعطل الجهد البشري

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى