«الحَرْكَى» قضية فرنسية داخلية
توفيق رباحي
ألقى ماكرون خطابا في قصر الإليزي، أمام حوالي 120 فرنسيا من أصول جزائرية، يسمون في الجزائر «الحَرْكَى» أو «الحَرْكيين» وعائلاتهم. وهؤلاء جزائريون انضموا بالآلاف (لا توجد إحصائيات دقيقة)، خلال الفترة الاستعمارية وحرب الاستقلال، إلى صفوف الجيش الفرنسي، وتعاونوا معه إداريا وعسكريا ضد مجتمعهم وأهاليهم، وشاركوا في ملاحقة الثوار والمتعاونين معهم.
مع إعلان الاستقلال في صيف 1962، بعد حرب دامية استمرت قرابة ثمانية أعوام، طرد الفرنسيون، مدنيون وعسكريون، وتركوا وراءهم «الحَرْكَى» فريسة للخوف والذل والعار الاجتماعي، ولانتقام الأهالي الذين نكل بهم الاستعمار وقتل ذويهم ودمر حياتهم بمساعدة «الحَرْكَى».
تفيد وثائق سرية فرنسية، مدنية وعسكرية، جرى الإفراج عنها حديثا، بأن الحكومة الفرنسية في صيف 1962 أمرت وزراءها بترك «الحَرْكَى» في الجزائر. كما وجه الرئيس شارل دوغول بمعاملتهم معاملة اللاجئين وفرز مَن تتوفر فيهم صفات اللجوء ومن لا تتوفر فيهم.
يروي شهود عيان جزائريون أن موضوع «الحَرْكَى» في ذلك الصيف من تلك السنة كان مأساة حقيقية، لأن الأمر لم يقتصر على رجال اختاروا طريقهم وكان عليهم أن يتحملوا تبعات اختيارهم، بل على عائلات ونساء وأطفال وعجزة نزل عليهم خبر نهاية الحماية الفرنسية لهم كالصاعقة. يقول شهود أيضا إن بعضهم تعلق بالمراكب وهي توشك على مغادرة ميناء العاصمة وغيرها من المدن الساحلية الجزائرية، مثلما تعلق مئات الأفغان بطائرات سلاح الجو الأمريكي، وهي تتأهب للإقلاع من مطار كابول الشهر الماضي.
يُعتقد أن نحو 30 ألف «حَرْكي» نجحوا في الوصول إلى فرنسا ذلك الصيف، من أصل 80 ألفا أرادوا المغادرة. لحظة الوصول إلى فرنسا كانت بداية المأساة وليست النهاية. فقد وضعتهم السلطات الفرنسية لشهور، بل سنوات في حالة البعض، في مراكز احتشاد قذرة ينخرهم الجوع والحيرة والخوف، يحرسهم عسكر وبوليس مدججون بالسلاح ويمنعونهم من الخروج. هذه المعاملة الفرنسية البائسة تؤلم «الحَرْكَى» وأبناءهم وأحفادهم اليوم، أكثر مما تؤلمهم المطاردات التي عاشوها في الجزائر قبيل نجاحهم في الخروج منها. المصير الذي انتظرهم في فرنسا هو ما يعجز هؤلاء الناس عن الشفاء منه. وفي نضالهم من أجل رد الاعتبار، يذكرون غدر فرنسا بهم أكثر من انتقام الجزائر منهم. ربما إيمانا بأنهم خانوا الجزائر فعاقبتهم، وهو أمر انتظروه، وخدموا فرنسا فخذلتهم، وهو أمر مفاجئ وخيانة لم تخطر لهم على بال.
تخلل خطاب ماكرون الكثير من العواطف والاعتراف بخيانة «الحَرْكَى»، وتخلي فرنسا عنهم عندما كانوا في أشد الحاجة إليها. ثم انتهى بالاعتذار باسم الدولة الفرنسية، ووعَد بقانون ينظم تعويضات مادية ومعنوية سيرى النور، قبل نهاية العام الجاري.
استاء الجزائريون وراح بعضهم يقارنون بين امتناع ماكرون عن الاعتذار إلى الجزائر عن جرائم الاستعمار، وسهولة اعترافه بالذنب والاعتذار من أناس خانوا مجتمعهم، بينما طاردت فرنسا مواطنيها المتعاونين مع الاحتلال الألماني، أثناء الحرب العالمية الثانية، وحاكمت مَن استطاعت منهم.
لا يحتاج الأمر إلى ذكاء عميق لتفسير هذه الثنائية: اعتذار فرنسا من الجزائر يحتاج إلى ضغط (lobbying) سياسي رسمي وأهلي قوي من الجزائريين.. والجزائريون لم يضغطوا، وحكومتهم لم تطلب رسميا الاعتذار. واعتذارها من «الحَرْكى» ينبع من كون الدولة الفرنسية لا تجد غضاضة في الاعتراف والاعتذار، عندما يتعلق الأمر بقضية رأي عام داخلية.
هذا ما يقودنا إلى صلب الموضوع: «الحَرْكَى» قضية فرنسية داخلية أولا وأخيرا. هم فرنسيون خذلتهم الدولة الفرنسية وتريد اليوم تعويضهم. الغضب الشعبي الجزائري في غير محله. في الجزائر، ورغم أنه يشكل إلى اليوم «وصمة» اجتماعية في جبين عائلات، وحتى عروش بأكملها، تعاونت مع الاستعمار الفرنسي أو تُتهم بذلك، أصبح موضوع «الحَرْكَى» ثانويا وربما الأخير في ترتيب قضايا الفترة الاستعمارية الكثيرة والمعقدة. الجزائريون يتذكرون هذا الموضوع فقط عندما تثيره فرنسا، ويطرحونه في اتجاه أنهم يرفضون الصفح عنهم، ويكرهون أن تنصفهم فرنسا.
هناك أيضا حقيقة الزمن والعمر. مَن يقاتلون اليوم من أجل رد الاعتبار هم «الحَرْكَى» الأبناء والأحفاد، لأن جيل الآباء انقرض، إذ إن الأب الذي كان عمره حوالي الثلاثين أثناء الاستقلال في 1962، يحوم اليوم حول التسعين، إذا كان لا يزال حيا. والأبناء لا يتحملون بالضرورة خطايا آبائهم. ولا تربطهم بالجزائر سوى تلك العلاقة المسمومة والقطيعة المعنوية العنيفة التي يريدون الشفاء منها. والمعروف عنهم أنهم أقل حنينا إلى الجزائر، وأقل احتراقا لزيارتها من آبائهم ومن الفرنسيين المسيحيين واليهود، الذين وُلدوا على أرضها.
الذين يعتقدون أن فرنسا حسمت قضية «الحَرْكَى» بسهولة مخطئون. لقد تلكأت 60 عاما وترددت ووعدت، ثم أخلفت فوعدت مجددا، إلى أن وصل ماكرون إلى الرئاسة. هذا التأخر الكبير والخذلان يجد تفسيره في كون «الحَرْكَى» فئة هامشية غير مؤثرة انتخابيا في فرنسا، وغير مفيدة سياسيا وضارة اقتصاديا.
في البداية كان موضوع «الحَرْكَى» جرحا غائرا في الجسدين الجزائري والفرنسي. لكنه مع الوقت أصبح مشكلة فرنسية داخلية لا تعني الجزائريين، فعليهم التحرر منها بمناقشتها بموضوعية وهدوء، بعيدا عن العواطف والشحناء.