إعداد وتقديم: سعيد الباز
ظلت أمريكا، أو العالم الجديد، تمثل في المتخيل الأدبي الكثير من الصور المتناقضة. فهي تحمل في داخلها وخارجها مظاهر العظمة من جهة، والغطرسة والاعتداد بالذات من جهة أخرى. لقد قدمت أمريكا نفسها إلى العالم نموذجا للحرية والتقدم، لكن في المقابل، كانت صورتها الأدبية تتفاوتُ بين الانبهار والانتقاد. كما يحدث أن نصادف أحيانا أعمالا أدبية تكشف لنا عن الوجه الآخر لأمريكا، خارج الصورة النمطية، للحياة الاجتماعية الأمريكية في الكثير من جوانبها الإنسانية وأشكال العيش فيها من خلال المعايشة والمشاهدة… أو كما قال الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا بأن علينا ألا ننظر إليها من الخارج، ولكن من رد فعل وجداني بصدق وعفوية.
ليلى أبو زيد.. أمريكا الوجه الآخر
تقدم الكاتبة المغربية ليلى أبو زيد صورة للوجه الآخر لأمريكا، من وحي تجربتها ومعايشتها للحياة الأمريكية عن قرب، خاصة في الجانب الإنساني والجانب الطبيعي الذي يفيض جمالا وروعة. وفي ثنايا ذلك كله، تتوقف الكاتبة في سردها عند لحظات تأمل ومقارنة بين المجتمع الأمريكي وغيره من المجتمعات: «… أوغلت في المشي حتى ابتعدت والمسافات الأمريكية قياسية… باستثناء النيويوركيين لا يستطيع الأمريكي التنفس إلا في المجال الرحب، سواء في السيارة أو الحديقة أو الشارع، على عكس الإنجليزي… سرقتني جولتي في غروب ذلك المساء الحار، عندما زفر الجو بغتة وتفجرت سدود السماء. كان المطر ينزل كطلقات مدفع رشاش. وقتها فهمت كم هي نسبية أمثال الشعوب وبنت بيئتها. صورة المطر الشديد عندنا في المغرب أنه خيط من سماء، وعند الفرنسيين أن السماء تمطر دلاء، أما عند الأمريكيين فهي أنها تمطر قططا وكلابا. كان من ذلك النوع الذي قال عنه الكاتب الفرنسي رومان كاري: «سيلا مغاليا كأغلب الظواهر الطبيعية في أمريكا عندما تركب رأسها»، تلك الظواهر التي قالت عنها امرأة كهلة في إحدى جلسات الذكر بالرباط: «لقد طردنا الشيطان، بعثنا به إلى أمريكا أرض الصواعق».
كانت الشوارع خالية وسيارات الأجرة تُطلب بالتلفون، فلم أجد بدا من طرق أول باب. وبما عُهِد في سكان «مينيسوتا» من دماثة، قادتني صاحبته إلى الحمام وأعطتني منشفة وطلبت لي سيارة أجرة.
«سانت بول» و«مينيابوليس» مدينتان متجاورتان يفصل بينهما المسيسيبي، تلقبان بالمدينتين التوأم، لكنهما في الحقيقة بمثابة الأختين للأب، تطبع علاقتهما معتقدات قائمة على نظرة كل منهما للآخر نظرة استصغار، مثل ما هو الشأن بين سكان الرباط وسلا الأصليين. سانت بول، عاصمة الولاية، أصغر حجما، ولكنها أقدم تاريخا، تميزها بيوت ضواحيها الفخمة على جانب شوارع طويلة، فسيحة ونضرة. أما مينيا بوليس فهي أولا وقبل كل شيء مدينة البنايات الحديثة وناطحات السحاب والبحيرات، التي يقصدها الناس في عطلة نهاية الأسبوع، للمشي وركوب العجلات والمزالج، وتناول طعامهم في الهواء الطلق، في مهرجانات يختلطون فيها ببط البحيرات، تلك الأمة المتكاثرة التي تسبب للأسف مشكلة. إنها تلوث العشب على جوانب البحيرة إلى حد منفر. ورغم أن ربيع مينيسوتا خيب ظني بانعدام الورد، ورغم أن هناك ولايات أخرى تنافسها في الخضرة وجمال البيئة، إلا أنني اخترت أن يكون لها عندي مكان خاص. إنها أول ولاية نزلت بها وألقيت المرساة وعرفت بشاشة الناس. إننا من خلال الناس نربط علاقتنا بالأرض فنحبها أو نكرهها وتصبح الأرض هي الشخص، ظاهرة غير منطقية ولكنها واقعية».
عبد الرحيم الخصار.. خريف فرجينيا
تحدث الشاعر والكاتب المغربي عبد الرحيم الخصار عن رحلاته عموما، وخاصة إلى أمريكا: أنا لم أخطط للسفر، ولم أخطط للكتاب. ومثلما تركت للصدفة مهمة القيادة في هذه الرحلات، تركت لها أيضا المهمة ذاتها تقريبا في ترتيب الكلمات. يمكن اعتبار هذا الكتاب أيضا بمثابة وعد يتردد في أعماق كائن يرغب في أن يضع قدميه في الجهات الأربع لهذه الأرض، قبل أن يغادرها: «… في الصباح زرنا الأمكنة التي يزورها معظم القادمين إلى واشنطن: المتاحف بالأساس. حتى المقرات الحكومية والسياسية في أمريكا يُنظر إليها في الغالب كمعالم سياحية، كالبيت الأبيض والكونغرس. وفي معظم المتاحف كانت صور وتماثيل جورج واشنطن وأبراهام لنكولن تملأ كل مكان. في «المتحف الوطني للتاريخ الأمريكي» توقفت عند المعرض الدائم المخصص للحرب: الذخيرة، الأسلحة القديمة، ملابس الجنود وأكياس الرمل التي يختفي خلفها المحاربون، وثمة أيضا سيارة حرب قديمة معلقة في سقف المتحف وعشرات الصور والفيديوهات والمجسمات والبورتريهات المخصصة لقادة المعارك خلال القرون الأخيرة. تريد أمريكا أن تؤرخ للحرب، تريد أن تؤرخ تحديدا لانتصاراتها، لم أنتبه إن كان هناك شيء في هذا المتحف يؤرخ أيضا لهزائمها.
في قلب واشنطن، وفي الحي الصيني تحديدا، تشعر أنك فعلا في آسيا، هذا المدخل الأصفر المقوس والعالي جعلني أحس كما لو أنني أمام باب معبد بوذي، أو باب قصر في الصين. توقفت قليلا أمام مجموعة من الأفراد السود يرتدون ملابس لمحاربين قدامى، يمسك أحدهم الميكروفون ويدعي أن الأنبياء جميعهم سود، وأن الإله أيضا أسود، ويمرر الميكروفون لصديقه كي يتهكم قليلا على ما جاء في الإنجيل. وعلى المنصة التي يعتلونها لافتات وقصاصات من الجرائد، تنتقد بشدة الإسلام والمسيحية أيضا. فهمت أن الأمر يتعلق بطائفة يهودية متطرفة، تركتهم يصرخون ودخلت رفقة صديقي إلى محل صيني لاقتناء تذكارات عن واشنطن، يسري فيها هواء الشرق الأقصى بعيدا عن العنف والصراخ والتطرف.
في مطعم بجورج تاون كان واحدا من السود ينظر إليّ نظرة لا تبعث إطلاقا على الراحة، فجأة بدأ يرفع صوته بالتدريج موجها إلي جملا طويلة من التوبيخ والعتاب، ومع تعاقب كلماته أدركت أنه مختل. في الآن ذاته كان رجل آخر يطوف حولنا، ثم طفق يقلد صوت ثور. يا إلهي! الجنون يلاحقني هنا أيضا، ففي بلدتي كانت تصل من حين لآخر أسراب من المختلين الذين يجلبونهم في الغالب من المدن السياحية القريبة ويطلقونهم في محطة الحافلات، يتسكعون بالليل والنهار، يمدون أيديهم للعابرين وينامون في العراء. لم يكونوا ليؤذوا أحدا، لكنني تساءلت مع نفسي مرارا لماذا يحب هذا المغرب أن يبدو وجهه جميلا فقط للآخرين القادمين لأيام من أوربا وأمريكا؟ لماذا لا تجمل هاته البلاد وجهها لنا نحن المقيمين فيها للأبد؟
يقول صديقي الكوبي دان فيرّا الذي ترعرع في أمريكا: «هذه البلاد لم تعد بلاد شعر»، يقول ذلك متحسرا ومشدودا بحنين جارف إلى زمن إيميلي ديكنسون التي كرست حياتها لكتابة الشعر، لم تنشر إلا القليل، وحين ماتت اكتشف أصدقاؤها الكنز: صناديق مليئة بالشعر.
ربما لم يعد الأمريكيون في حاجة كبيرة إلى الشعر، إنهم يعيشونه بدل أن يكتبوه. الشعر هو أن تتمتع بالأمان وأن تعبر عما يدور في رأسك وقلبك بحرية وبدون خوف، أن تكسر كل الحواجز التي يمكن أن تعترض طريق المشاعر والأفكار. الشعر هو أن يكون لك بيت ومدفأة ومزهرية وكتب وموسيقى وأرائك ودولة تحميك وتتأهب للحرب من أجلك.
لكن صديقي الكوبي دان فيرّا، الشاعر والناشر، على حق، فقد عرف الشعر الأمريكي بعد إزرا باوند وويتمان وديكنسون وإدغار ألن بو تحولات جذرية ذهبت في الغالب إلى تناول الحياة في أمريكا الجديدة بالطريقة نفسها التي يتم بها تناول الوجبات السريعة. فأشعار تشارلز سيميك مثلا التي تملأ أمريكا اليوم ظلت دائما، ونظرا لخفتها الزائدة، تطفو فوق مياه الهم الإنساني، ولم تنفذ إلى العمق».
فيديريكو غارسيا لوركا.. شاعر في نيويورك
كان الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا (1898-1936) قد حط رحاله في نيويورك لإلقاء محاضرات في جامعة كولومبيا، كان من أثر هذه الرحلة ديوانه الشعري «شاعر في نيويورك» ومقدمته الشهيرة التي بسط فيها جملة من تأملاته حول العالم الجديد من عدة زوايا، كالمعمار الهائل المتجسد في ناطحات السحاب ونمط الحياة، دون أن يخفي تعاطفه الشديد مع السود الأمريكيين: «إني لن أحكي لكم ما هي نيويورك «من الخارج»، لأن لنيويورك مثل كل المدن الكبرى الأخرى كتبا عديدة تصفها. كما إنني لن أحكي عن رحلتي. إن ما سأقدمه هو رد فعلي الوجداني العاطفي، بصدق وعفوية، وهما خاصيتان لا تتأتيان للمفكرين إلا بصعوبة، ولكنهما تتأتيان بسهولة للشعراء.
إنّ أول عنصرين يلمسهما الزائر في المدينة الكبيرة هما المعمار فوق الإنساني والإيقاع المحموم. الهندسة والأسى. فللوهلة الأولى، يمكن أن يختلط الإيقاع بالبهجة. ولكن حين ينظر المرء في روية أكثر إلى آلية الحياة الاجتماعية والاستعباد المؤلم للإنسان والآلة على السواء، فسوف يرى أنها ليست سوى نوع من الأسى الذي يجعل حتى الجريمة والعصابات وسائل هروب يمكن الإغضاء عنها.
ترتفع البنايات الحادة الجوانب إلى السماء، بلا رغبة منها أن تكون سحابا أو أن تطلب مجدا. إن زوايا المعمار القوطي وحوافه تخرج من قلوب الموتى المدفونين. ولكن هذه الزوايا والحواف تصعد في برود نحو السماء في جمال لا جذور له، ولا تبين عن شوق، بل عن توافق غبي وعجز كامل عن أن تسمو أو تنتصر – كما يفعل المعمار الروحي- على النوايا الأدنى للمهندس المعماري. ليس من شيء أكثر شاعرية وهولا من معركة ناطحات السحاب مع السماوات التي تظللها. إن الثلوج والمطر والغمام تبرز الأبراج الرحيبة، أو تغرقها، أو تخفيها. بيد أن تلك الأبراج، معادية للأسرار وعمياء تجاه أي نوع من اللعب، تجزّ ضفائر المطر وتلمّع سيوفها الثلاثة آلاف عبر بجعة الضباب الرقيقة.
ولا يمر سوى وقت قصير قبل أن يدرك المرء أن هذا العالم الهائل ليست له جذور، ويفهم لماذا كان على المتنبئ إدغار آلان بو أن يعانق الأسرار ويدع الانتشاء الودي يغلي في عروقه.
… ولكن، عليك أن تخرج، وأن تقهر المدينة، وألا تستسلم لردود الفعل العاطفية دون أن تكون قد احتككت بالجماهير في الطرقات وبجموع الناس القادمين من جميع أنحاء العالم.
ولهذا فقد خرجت إلى الطرقات، وقابلت السود. ونيويورك هي ملتقى كل أعراق العالم. بيد أن الصينيين والأرمن والروس والألمان يظلون أجانب غرباء. وهكذا يظل الجميع… ما عدا السود. ليس هناك من شك في أن السود يمارسون تأثيرا عظيما في أمريكا الشمالية، وأنه مهما يقول البعض، فإن السود أرق عنصر في العالم وأكثره روحانية. ذلك لأنهم يؤمنون، لأنهم يأملون ويغنون.
وإذا جال المرء عبر حي «البرونكس» أو «بروكلين»، حيث يعيش الأمريكيون الشقر، فإنه يستشعر شيئا من الصمم: الناس الذين يحبون الجدران التي تحميهم من النظرات الجائلة: ساعة حائط في كل منزل… إلخ. ولكن في أحياء السود، هناك شيء من التبادل المستمر للبسمات: اهتزاز أرضي عميق يغطي أعمدة النيكل بالصدأ، الصبي الصغير الجريح الذي إذا تطلعت إليه طويلا فسوف يقدم لك فطيرة التفاح التي يأكلها».
فرانز كافكا.. أمريكا
الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883-1924) الذي كتب أول رواياته «أمريكا» حالة مختلفة، فهو لم يزرها بتاتا، وإنما اعتمد على روايات وشهادات مهاجرين إلى العالم الجديد من أقربائه أو قراءاته. هذه الرواية غير المكتملة والأكثر واقعية من أعماله اللاحقة، لكنها كانت تحمل بذرة عالمه الكافكاوي بسوداويته وغرائبية الأحداث: «… كانت غرفة كارل تقع في الطابق السادس، غرفة لم يكن ليحلم بمثلها مطلقا لو أنه قد نزل هذا البلد كمهاجر صغير معدم، فضلا عن احتمال عدم التصريح له بدخول الولايات المتحدة مطلقا، تبعا لتقدير خاله الذي كان على دراية بقوانين الهجرة، بل إنه ربما كان قد أجبر على العودة ثانية إلى وطنه، دون اعتبار مطلقا لحقيقة أنه كان قد أصبح بلا وطن. كان التعاطف شيئا لا يصح لك أن تأمل فيه في بلد كهذا، وكانت أمريكا تتفق في هذا الصدد تماما مع ما كان كارل قد قرأه عنها، ما عدا شيئا واحدا هو أن هؤلاء الذين واتهم الحظ فيها كان يبدو عليهم أنهم ينعمون هنا بحظهم مختالين بأنفسهم بين أصدقائهم الذين لا يبالون بشيء.
… كانت عيناه مفتوحتين على كل شيء، وكان خاله جيكوب قد نصحه بألا يأخذ شيئا في الوقت الحاضر مأخذ الجد، ليتفحص كل شيء بالفعل ويأخذه في اعتباره، لكن دون أن يجهد نفسه. إن الأيام الأولى لأي أوروبي في أمريكا تبدو كما لو كانت ميلادا جديدا، ولم يكن كارل يحاول أن يشغل نفسه كثيرا بأمر أيامه الأولى هذه دون داع، ما دام المرء يعتاد على الأشياء هنا بسرعة أكبر من سرعة اعتياد الطفل القادم إلى الدنيا من العالم الآخر لهذه الأشياء، إلا أن عليه أن يضع نصب عينيه أن الأحكام الأولى لا يعول عليها دائما، ولهذا فلا يجب على المرء أن يسمح لها بالتأثير على أحكامه المقبلة التي سوف ترتكز عليها في نهاية الأمر حياته في أمريكا، ولقد عرف هو شخصيا وافدين جددا، منهم على سبيل المثال، من نبذوا هذه الافتراضات الحكيمة وراحوا ينفقون أيامهم بطولها في شرفاتهم يحدقون منها نحو الشارع في أسفل كالقطعان الضالة. ربما كان استغراقه وحيدا على هذا النحو في التحديق المتبلد نحو الحياة المتشابكة لنيويورك يسبب له حيرة بالغة… إلا أن هذه الحيرة لو تملكت شخصا وفد إلى أمريكا لمجرد المتعة، فلعلها تتملكه في حدود لا تتعداها. أما أن تتملك شخصا ينوي البقاء في هذه الولايات، فلا معنى لها عندئذ سوى أنها أداة تدمير فحسب، وهو لفظ مؤثر بلا داع، ولعله ينطوي أيضا على شيء من التهويل، وكان الخال جيكوب في الحقيقة يكشر في ضيق كلما وجد كارل واقفا في الشرفة حين يكون في زيارة من زياراته لكارل، تلك الزيارات التي كانت تحدث مرة في كل يوم وفي أوقات مختلفة من النهار، وقد لاحظ كارل ذلك سريعا، وكان لهذا يحرم نفسه بقدر الإمكان من متعة الوقوف لفترات طويلة في الشرفة».
صنع الله إبراهيم.. أمريكانلي
نجد في رواية “أمريكانلي” للروائي المصري صنع الله إبراهيم روح استكشاف المكان وتحديدا أمريكا ومدينة سان فرانسيسكو، من خلال شخصية البروفسور شكري الأستاذ الزائر إلى إحدى الجامعات تمتد لدورة سنوية واحدة. تستعرض الرواية ملامح الحياة الاجتماعية الأمريكية وطابعها الخاص على عدة مستويات ومن خلال مقاطع متلاحقة تتناسب مع طريقة صنع الله إبراهيم وأسلوبه السردي:
“… عدتُ إلى “جيني” فأعطيتها الأوراق وبقت في يدي ورقة زرقاء مطوية تضمنت خريطة صغيرة لحرم الجامعة وتحذيرات عديدة قرأتها في عناية:
-لا تفتح باب مسكنك لطارق قبل أن تتأكد من هويته.
-فور دخول مسكنك أغلق الباب وأمن القفل.
-كن يقظا وانظر حولك قبل دخول ساحات انتظار السيارات.
-لا تكشف عن مفتاحك في مكان عام أو تتركه بإهمال فوق موائد المطعم أو في أماكن أخرى.
-لا تجذب الانتباه إلى نفسك بإبراز كميات كبيرة من النقود أو الحلي الثمينة.
-لا تدعو أغرابا إلى منزلك.
-لا تترك أشياء ثمينة في سيارتك، وعندما تتوقف في مكان أغلق نوافذها. وإذا غادرتها افعل هذا بسرعة وأغلق أبوابها بإحكام.
-تأكد من إغلاق الأبواب والنوافذ الزجاجية المنزلقة في منزلك.
تحولتُ منصرفا فابتسمت في خبث قائلة: احذر المشي في الشوارع بعد العاشرة ليلا. بدا علي الانزعاج فقالت: إذا شئت أعطيك رقم خدمة المرافقة البوليسية.
-ماذا تعنين؟
قالت: تتصل بالرقم من 7 مساء إلى 2 صباحا فيأتيك طالب أو طالبة تحمل راديو شرطة ومصباح كهربائي طويل ورشاش فلفل وتصحبك حتى باب منزلك. وأضافت ضاحكة: الباب فقط.
سألتُ: هل هم متطوعون؟
-أبدا، إنها وظيفة. الواحد منهم يأخذ عشر دولارات في الساعة”.
أول أيام الأستاذ شكري في الجامعة ستقدمه لنا الرواية على الشكل التالي: “… مشيتُ إلى الجامعة في جو فيه برودة منعشة. مررتُ بعمال بناء انتحى كل منهم جانبا مع صندوق طعامه بينما اكتفى واحد منهم ذو ملامح أسيوية بتفاحة. وبدأت الحياة تدب في الشارع كلما اقتربتُ من “الكامبوس”، حرم الجامعة. فقد ظهر المشردون الذين يشحذون الفكة بصحبة كلابهم، والمعاقون في مقاعدهم المتحركة، وشبان بشعور طويلة معقودة خلف رؤوسهم على هيئة ذيل الحصان أو أمامها على هيئة عرف الديك، أو ملونة بالألوان البنفسجية والخضراء، أو مجتثة من جذورها، وفتيات بدرجات مختلفة من العري، في شورتات أو بنطلونات مرقعة أو أردية فضفاضة تقترب من الزي الإسلامي، يضعن خواتم وحلقان في الأنف والأذن وأحيانا الحاجب وتغطي سواعدهن وظهورهن بالوشوم.
… أشرفتُ أخيرا على مباني الجامعة فألفيتُ في مدخلها منصة عالية جلس خلفها شابان أسودان وسط طبول معدنية ضخمة ومكبرات صوت كبيرة. ولجتُ المعهد خلف فتاة فارعة في صندل خشبي وسروال من الجينز فوقه صديرية قصيرة أبرزت بطنا عاريا.
ابتسمت لي السكرتيرة السوداء ابتسامتها المتكلفة وهي تدس يدها في كيس من الفطائر… ولجتُ الغرفة الصغيرة المجاورة وبحثتُ عن صندوق البريد الخاص بي. كانت صناديق الأساتذة المغلقة في جانب وفي الجانب الآخر كوات مفتوحة خصصت للمعيدين والمدرسين الشبان. ولم أجد في الصندوق الذي يحمل اسمي سوى بعض الإعلانات. غادرتُ الغرفة وتمهلتُ أمام خزانة للمواد الكتابية التي تُتاح مجانا للأساتذة. التقطتُ بضع مظاريف صفراء من نوع نادر الوجود في مصر، ووضعتها في حقيبتي، ثم مضيتُ إلى “جيني” وحصلتُ منها على رقم القاعة التي سألقي بها درسي… صعدتُ ونزلتُ عدة مرات إلى أن وجدتُ القاعة في الطابق الثالث… وكانت بها فتاة بيضاء، سمينة ذات وجه مليء بالبثور… استقبلتني مرحبة قائلة بعربية ركيكة: أهلا وسهلا.
أبديتُ دهشتي من معرفتها للعربية فقالت إنها لا تعرف سوى بضع كلمات وإنها زارت “القاهرة” منذ عامين. لم تكن القاعة كبيرة وقد حددتها مسز “شادويك” على أساس عدد الطلبة الذين أدرجوا أسماءهم في حلقتي. كانت تضم طاولة خشبية نظيفة تحيط بها مقاعد مريحة مبطنة بالجلد، وتشرف عليها سبورة واسعة مزودة باقلام فوسفورية… تتابع وفود طلابي… التفوا أمامي حول الطاولة يتأملونني في توجس… لم أكن أقل توجسا منهم، وعلى رأس دواعي القلق كانت لغتي الإنجليزية… لم أكن في طلاقة خريجي المدارس الأجنبية أو الجامعة الأمريكية.
رف الكتب
تحت أكثر من سماء
لم يكن الشاعر الراحل أمجد ناصر فقط شاعرا وكاتبا صحفيا لامعا، بل كان إضافة إلى ذلك كاتب رحلات مميزا. في كتابه “تحت اكثر من سماء” أفرد فيه فصلا مطولا عن المغرب تحت عنوان “مجيء الزمن المغربي، تناول فيه العديد من المظاهر الحضارية المميزة للمغرب من خلال أساليب العيش ونمط الحياة إضافة إلى تطرقه المستفيض للإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وخصوصا علاقته الثقافية بالمشرق الموسومة في الكثير من الأحيان بالتناقض وسوء الفهم. في هذا الفصل تحدث عن الطبخ المغربي بالكثير من التحليل للعناصر المشكلة وتميزه وخصوصيته مقارنة بالمطابخ الأخرى مظهرا حسن ذوقه وإطلاعه الواسع في هذا المجال مع القدرة على التقاط التفاصيل:
“… وإلى بائعي الحلزون هناك بائعو الشاي الذين يشبهون نظراءهم المصريين الذين تجدهم قرب المرافق العامة والمناطق السياحية أو على ضفة النيل. سوى أن المغاربة يشربون، عموما، الشاي الصيني الأخضر مع النعناع ويسمونه “أتاي”، أما الشاي الأحمر أو الأسود الذي يشربه المصريون وسائر المشارقة فليس شائعا. الشاي المغربي أصفر اللون، حلو المذاق، عابق برائحة النعناع الفاتنة، يشرب في كؤوس صغيرة، ملونة، غالبا، وله عادات وطقوس في السكب والشرب ليس السوق مجالها… كانت رائحة النعناع تنعش هواء “السويقة” وتستخفه وليس ذلك بسبب أباريق الشاي الصفراء التي تغلي على المواقد… ولكن بسبب حزم النعناع، بل أكوامه، التي تبيعها نسوة في ركن من السوق. فلم أر كمية من النعناع مشابهة لهذه في أي سوق خضر عربية أخرى.
… الشارع الذي يقع فيه المطعم يتفرع من شارع “أنفا”… لكن ما أن دلفنا قوسه الخارجي حتى انتقلنا من “حداثة المدينة” إلى عراقة المدن المغربية: فاس، مراكش… يبدو أن استخدام الفواكه واللوز مع “طواجين” اللحم والدجاج مشترك بين المطبخ الفاسي والمطبخ الأندلسي القديم. وقد هاجرت روائح الطعام ووصفاته وطرائق إعداده، على الأغلب، مع المهاجرين الأندلسيين واختلطت بالطبخ المغربي. فاستخدام البرقوق والسفرجل والإجاص والتمر والتفاح إضافة إلى العسل مع أكلات يدخل فيها لحم الضأن أو البقر أو الدواجن غير شائع في المشرق العربي. وباستثناء مطبخ مدينة حلب السورية، تحديدا، فإن فكرة دخول الفاكهة على الطبخ المشرقي مستهجنة تماما. إذ كيف تستقيم حلاوة الفاكهة و”العسل !” مع اللحوم المطهوة بالبصل والثوم والمطيبة بالتوابل؟ وكيف يكون الطعم، ناهيك عن النكهة، الذي ينتجه اختلاط هذه العناصر المتنازعة في مادتها ومذاقها؟
الجواب، من خلال التجربة: طعم ونكهة مدهشان.
فلا الفاكهة الطازجة أو المجففة تحتفظ، بعد طهيها باللحم والتوابل بطعمها الأصلي ولا اللحم يظل محتفظا بطعمه ومقامه المتعالي الذي يبدو ذكوريا قياسا إلى الأنوثة والرقة الثاويتين في الفواكه. ذكورة تقهر الخضر والحبوب ولكنها ترعوي أمام الفاكهة ! ففي “الطجين” الذي يؤكل باليد (بل بثلاثة أصابع من اليد اليمنى)، لا بالملعقة والشوكة، تبوح المواد بمكنون خواصها بعضها لبعض وتتشرب كل مادة نسغ ونكهة المادة الأخرى، خصوصا إذا تعهدته أيد خبيرة… ذقتُ، لأول مرة، “البسطيلة” وطجين الدجاج بالزيتون، وإذا كان ليس مستهجنا لنا، نحن المشارقة، أن يُطهى الدجاج بالزيتون (رغم أننا لا نفعل ذلك) فإنه من الصعب أن نتصور إضافة السكر والقرفة إلى فطيرة محشوة بلحم الدجاج !
وهذه هي “البسطيلة”… التي عددتها أنا أطرف الفطائر طراً، ليست مجرد فطيرة محشوة بلحم الدجاج فقط. فهي خلطة… داخل رقائق عجينة خاصة تُشوى بالفرن ويذر عليها السكر الناعم بعد أن تُحمر”
مقتطفات
الأدب الرقمي.. أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية
تقدم الكاتبة المغربية زهور كرام موضوع كتابها والسياق الذي يندرج فيه “الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية” بقولها: “يدخل كتاب الأدب الرقمي في إطار محاولات التحسيس بهذا التجلي الأدبي الجديد الذي يتم في علاقة تفاعلية مع التكنولوجيا. إنه وقفة تأملية بلغة النقد في طبيعة النص الأدبي الذي يشهد تحولات عميقة في نظام ترتيب مكوناته، وفي منطق اشتغاله، وفي انفتاحه على عناصر جديدة تفعل في زمن تكونه الداخلي مثل الصورة واللون والموسيقى ولغة البرامج المعلوماتية.
إن الاقتراب من الادب في وضعه الرقمي، هو اقتراب من المتغير في الحالة التي تصبح عليها الممارسة الإبداعية، عندما تعتمد دعامة الرقمي، يعني انتقال سياقي وبنيوي وأسلوبي ولغوي ومعرفي في الظاهرة الأدبية، وهو انتقال أيضا في شكل الرؤية إلى الذات والعالم.
كيف نقرأ الأدب في وضعه الجديد؟ هل يتغير مفهوم النص الأدبي، والمؤلف، والكاتب، والقارئ؟ كيف يجدد النقد خطابه ومفاهيمه وأدواته الإجرائية وهو يقرأ النص الأدبي الرقمي؟ هل يعبر النص الأدبي الرقمي العربي على خصوصية التجربة؟ تلك بعض الأسئلة التي حاولنا التفكير في هذا الكتاب باعتماد محورين اساسيين: محور قضايا وإشكالات ومفاهيم الأدب الرقمي في الطروحات الأجنبية، وهو محور حاولنا منة خلاله وضع الأدب الرقمي في سياق أسئلة نظرية الأدب، ثم رهانات الخطاب النقدي الذي يجدد بدوره أسئلته ومعجمه ورؤيته للنص الأدبي، مع انخراطه في التجارب الجديدة التي تعرفها الظاهرة الأدبية، ثم محور تطبيقي قمنا فيه بتحليل بعض أعمال الكاتب الأردني محمد سناجلة: شات وصقيع، من أجل إنتاج معرفة نقدية بمفاهيم الأدب الرقمي من داخل النص العربي”. من النقاط المثارة والتي يسعى الكتاب إلى معالجتها يمكن ذكرها على الشكل التالي:
-إن موضوع الأدب الرقمي هو موضوع يأتي في سياق تكنولوجي، بخصب مساحة الحرية أمام الأفراد. وهي حرية يمكن التعامل معها بوعي كبير. من أجل استثمارها وتحويلها إلى قدرة إبداعية في ممارسة الحوار.
-إن الانخراط في الأدب الرقمي هو مطلب حضاري بامتياز. وليس نزوة أو موضة عابرة أو شيئا من هذا القبيل. والمسألة محسومة معرفيا وثقافيا وأنثروبولوجيا. فبالعودة إلى مختلف الأشكال التعبيرية القديمة والحديثة، سنلاحظ أنها وحدها التي عبرت عن قدرتها على احتضان معنى وجود الإنسان في كل مرحلة تاريخية. فالشعوب تترك معنى وجودها وكينونتها من شكل حكيها. وكلما اختلفت وسائل التعبير، وتعددت وتنوعت، كلما وجد الإنسان أشكالا كثيرة لترميز حياته وتصوراته وإدراكاته.
-إن حالة التردد التي تتسم بها عملية التعامل والتواصل مع الأدب الرقمي، من قبل مجموعة من الكتاب والنقاد هي حالة تعبر عن وضعية الثقافة التكنولوجية في الممارسة العربية، وأيضا في الانشغال الذهني والفكري.
-إن تراكم النصوص الرقمية في التربة العربية يعد مدخلا عمليا لتفتيت حالة التردد، كما يساهم في إدخال القارئ العربي إلى هذا العالم العجيب والمدهش والغريب والجديد.
-تقبل النص الرقمي التخييلي مشروط بخلق مادة نصية تخييلية، تكون مؤهلة كميا وكيفيا لإثارة انتباه القارئ، وتحفيزه على التواصل مع هذا التخييل الرقمي.
-إن مفاهيم الأدب الرقمي ما تزال ملتبسة وغامضة من حيث الاشتغال، ليس فقط في التجربة العربية، وإنما أيضا في التجربة الغربية وذلك لكون تجربة الأدب الرقمي حديثة العهد. ولهذا لا ننتظر ثباتا في التحديد المفهومي، لأن ذلك يحتاج من جهة إلى تراكم النصوص، ومن جهة ثانية إلى نشاط حركة النقد. وعليه، فإن تعدد تسميات المفهوم كما يحدث مع التفاعلي والمترابط والرقمي، هو تعدد يترجم حالة النص التخييلي الرقمي. ومن ثمة، فالضرورة النقدية تقترح الانخراط في تجربة التحليل الأدبي الرقمي، من أجل خلق حركية اشتغال المفهوم.
-بناء على طريقة تأملنا في تجربة الأدب في علاقاته بالتكنولوجيا، فإن الأدب الرقمي هو مفهوم عام تنضوي تحته كل التعبيرات الأدبية التي يتم إنتاجها رقميا، والمترابط مفهوم يعين الحالة الأجناسية لهذا الأدب، أما التفاعلي فهو إجراء رقمي عبره تتحقق رقمنة النص. لكنها تأويلات لدلالات مفاهيم قابلة للتحول مستجدات تجربة النصوص.
-مادام إنتاج النص التخييلي الرقمي يتم في سياق ثقافة علمية تكنولوجية تتطور بسرعة تفاجئ العقل البشري، فإن هذا الوضع يتطلب من الحكومات العربية بما فيها وزاراتها في التربية والتعليم ووزاراتها في الثقافة والتواصل بضرورة الانتباه إلى التربية على ثقافة التكنولوجيا، من أجل خلق جيل مؤهل لكي يبدع ثقافته وإبداعاته ورموزه بناء على ممارسته لثقافة التكنولوجيا وذلك حتى لا يبقى الفرد العربي مجرد مستهلك للمفاهيم –نظريا- وللتكنولوجيا كمتلقٍ دون أن يتحول إلى منتج.
-لن يستقيم الوعي بالأدب الرقمي، إلا بانخراط المبدعين والنقاد والمثقفين في التجربة، كتابة وتأملا ونقدا وتفكيرا.
متوجون
“الفسيفسائي”.. أفضل كتاب عربي في مجال الرواية
أعلن عن فوز “الفسيفسائي” كأفضل كتاب عربي في مجال الرواية للروائي المغربي عيسى ناصري في معرض الشارقة في الإمارات العربية المتحدة. حيث تم اختيار المغرب “ضيف شرف” في الدورة الثالثة والأربعين لمعرض الشارقة الدولي للكتاب. وقد سبق للرواية أن بلغت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية برسم دورة 2024، وقد نافست لنيل هذه الجائزة رواية “قناع بلون السماء” الكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي الذى حقق الفوز بالجائزة في نهاية المطاف، و”مقامرة على شرف الليدي ميتسي” للكاتب المصري أحمد المرسي، و”بَاهَبل مكة” للكاتبة السعودية رجاء العالم، و”خاتم سليمي” للكاتبة السورية ريما بالي، وأخيرا رواية “سماء القدس السابعة” للكاتب الإماراتي أحمد العيسة. وبالتزامن مع هذا الفوز تم تتويج دار النشر “مسكيلياني” التونسية التي صدرت عنها هذه الرواية بجائزة أفضل دار نشر عربية.
عيسى ناصري روائي وقاص مغربي من أعماله القصصية والروائية: “مسخ ذوات الناب” مجموعة قصصية، صدرت سنة 2016 و”الفسيفسائي” سنة 2023، التي تعد روايته الأولى. حصل على جائزة اتحاد كتاب المغرب للشباب عام 2017، في صنف القصة، عن مجموعته القصصية “عمى الأطياف”، وجائزة أحمد بوزفور للقصاصين الشباب بالوطن العربي دورة 2014 عن مجموعة “مسخ ذوات الناب”.