معن البياري
أما وأن راشد الغنوشي في السجن، بحكميْن عليه، عاما، ثم ثلاثة أعوام (هل من غيرهما لاحقا؟)، والمنصف المرزوقي في الخارج، ويصدر عليه، أخيرا، حكم غيابي ثان بالسجن ثماني سنوات (تضاف إلى أربع سنوات في 2021)، فيما قيس سعيّد يقيم في قصر قرطاج رئيسا، فهذا واحد من شواهد وفيرة على خراب عربي عريض، وليس في تونس وحدها، لأن نخبا وأقلاما وأوساطا ومنابر وأحزابا وبرلمانيين ومثقفين عربا كثيرين بلعوا ألسنتهم، وما زالوا، لما انقلب سعيّد على الدستور والمؤسستين التشريعية والقضائية وعموم الحياة السياسية، وابتدع دستوره الخاص ومضى في استفتاءاته الكاريكاتورية، وأجرى انتخاباته الركيكة فركب «البرلمان» الذي أراده وفق قانون عجيب، وأودع في السجون شخصيات وفاعليات حزبية ووطنية وفكرية وقضائية وسياسية، باتهامات مصنوعة، وجعل الإعلام أُحاديا، وذلك كله في انقلاب شامل على كل منجزات التمرين الديمقراطي الذي عبرت إليه تونس بعد ثورة 2011، فارتدت في عهد «الديكتاتور الثالث» (بتسمية المرزوقي سعيّد) إلى ما هو أسوأ مما كانت عليه في سنوات الديكتاتور السابق بن علي. واستجدت صورة هزلية صارت عليها مؤسسة الحكم في تونس، بالنظر إلى الشذوذ الحاد في أداء سعيّد ومنطقه وتخاريفه في غير شأن، فإذا ما أراد صاحب هذه الكلمات شيئا من التسرية عن نفسه «يزور» صفحة الرئاسة التونسية في «فيسبوك» لمطالعة ما يبثه الرئيس، الفريد نوعا وسمتاً، أمام من يستقبلهم ويلتقيهم من وزراء وموظفين رفيعين في شؤون اقتصادية وتنفيذية وأمنية ورياضية (!) و…. وإلى هذا الحال، ثمة التردي الملحوظ في الخدمات، وارتفاع الأسعار، ونقصان سلع غذائية، مع شيوع إحساس عام بين الشباب وقطاع واسع من التونسيين بعبث المشهد السياسي العام، وبالإحباط، وبانعدام الجدوى من أي احتجاجٍ أو اعتصام أو إشهار صوت ناقد أو معارض.
لنتذكر أن المنصف المرزوقي، وهو الرئيس الأسبق والمناضل الحقوقي الرفيع والمثقف اللامع، ساعات بعد ذلك الانقلاب المشهود الذي دشنه سعيّد في 25 يوليوز 2021، خاطب الذين هللوا لما فعله الأخير، لعداوتهم حركة النهضة، «إذا تواصلت هذه المهزلة فإن وضعكم الاقتصادي والاجتماعي والصحي لن يتحسن، بل بالعكس سيزداد سوءا، ووضع تونس سيزداد سوءا». ولم يكن الرجل يضرب في الرمل في قولته تلك، فلم يتنبأ بغير البين من عنوان المكتوب، فقد تتابعت خبطات قيس سعيّد، المسبوقة بالبعرة التي تدل على البعير، وبالأثر الذي يدل على من تتعامى أبصارهم عنه، وأكدت البديهية التي جهر بها المنصف المرزوقي. ولا تزيد في الذهاب إلى أن إسناد نُخب الثورات المضادة في غير بلد عربي ما أقدم عليه قيس سعيّد، في 25 يوليوز، كان فضيحةً (اتحاد الكتاب التونسيين ثم اتحاد الكتاب والأدباء العرب مثلا). وعندما تُلاحَق أمينة عام الحزب الدستوري الحر (وريث حزب بن علي) عبير موسي، بالتضييق والملاحقة، بل الاعتقال ساعات، فهذا مما أكد المؤكد، وثبت، فعليا، أن الرئيس الراهن لا يحترم مناصريه، ولا يشعُر بحاجته إليهم، وهذا حال الاتحاد التونسي العام للشغل، بارتباكاته وتأرجحه بين موقف وآخر، يدل على هذا الظاهر المعايَن.
من غريب ما جاء في حكم المحكمة الابتدائية في تونس على المرزوقي، السجن ثماني سنوات، أن الحكم إثر إدانة الرجل بإثارة «الهرج» بين التونسيين، وتحريضه بعضهم ضد بعض، فضلا عن تهمة «الاعتداء على أمن الدولة». ولمّا كان من نقصان العقل أن يتعامل واحدنا مع كلامٍ كهذا بجدية، ولو أنه صادر عن هيئة قضائية، لك أن تراه بعيون أهل المسرح، فليس من شك في أن صاحب «المراجعات والبدائل» (أحدث كتب المرزوقي) حرض التونسيين من أجل الثورة ضد «المُنقلب»، ليستردوا منجزهم في ثورتهم التي كانوا شجعانا فيها. وليس في هذا تأليب تونسيين على تونسيين، وإنما تذكير تونسيين بما سرقه تونسيون منهم، وهذا فعل إصلاحي شديد الإلحاح في غضون الركاكة التي يغالبها بلد الياسمين في أثناء سلطة رئيس يستثير كل كلام ينطق به الضحك الذي كالبكاء، من فرط البؤس الذي صير عليه تونس، ليس بما يقترفه هذا الرجل فقط، وإنما بتواطؤ نخب واسعة معه أيضا، ليس منها المرزوقي، فكان طبيعيا أن يصدر الحُكمان بسجنه، ولا راشد الغنوشي، فكان طبيعيا أن يكون في السجن.
نافذة:
من غريب ما جاء في حكم المحكمة الابتدائية في تونس على المرزوقي السجن ثماني سنوات أن الحكم إثر إدانة الرجل بإثارة «الهرج» بين التونسيين وتحريضه بعضهم ضد بعض