الحق والواجب والريع
عادت المعركة التشريعية بقطاع التربية والتكوين، مع وصول مرحلة تشريع النصوص القانونية التي ينص عليها القانون الإطار إلى لحظات متقدمة.
ومثلما شكلت القوانين التنظيمية المتضمنة في دستور 2011 “أم المعارك”، لكون الفرقاء السياسيين والاجتماعيين اتفقوا على تمرير هذا الدستور وتواعدوا بالتطاحن حول تفاصيل تنزيله، فإن المعركة الكبرى الآن في قطاع التربية تتمحور حول 21 نصا قانونيا سيتم إصداره كما ينص على ذلك القانون الإطار. وتحديدا حول نصوص تمس في الصميم مصالح لوبيات تستغل نفوذها في محيط ديوان رئيس الحكومة وبعض الوزراء لتوجيه هذه النصوص وجهات أخرى.
وعندما نقول ديوان رئيس الحكومة فإننا نتحدث عن وزير التعليم العالي السابق، الذي تم تعيينه مباشرة بعد إعفائه في منصب مستشار رئيس الحكومة في ملفات التعليم، لتتبين بعد ذلك أسرار هذا التعيين. حيث تحول هذا “المستشار” إلى سد حقيقي لكل النصوص الوزارية من وزارة أمزازي، بل ويعمل بالتعاون مع مكونات حزبية موازية لكي يظل الحزب الأغلبي “لاعبا” رئيسيا ولو في الكواليس. لاعبا رئيسيا، ليس في إصلاح منظومة التربية والتكوين كما ينبغي أن يكون، بل في خدمة مصالح المنتفعين الدائرين في فلكه، وعلى رأس هؤلاء لوبي القطاع الخاص.
فقبل أيام، وأثناء الاجتماع الثاني للجنة الوطنية لتتبع ومواكبة إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي بدا واضحا أن لرئيس الحكومة وطاقمه أجندات محسوبة يحرصون على متابعتها بدقة، لذلك من الطبيعي أن يحظى مشروع القانون التعديلي للقانون المعمول به حاليا في القطاع الخصوصي بمناقشة مستفيضة من طرف حزب رئيس الحكومة. وهاجس الفريق الذي يقوده كاتب الدولة السابق في التعليم العالي خالد الصمدي هو عرقلة صدور مواد بعينها تفرض على القطاع الخاص واجبات توازي الحقوق التي استفاد منها طيلة سنوات، وخاصة تحديد نسبة مساهمات هذا القطاع في تقديم خدماته بالمجان لفائدة أطفال الأسر المعوزة.
فـ”الإخوان” لم ترمش لهم عين وهم يرون “إخوانا” لهم يبتزون الأسر في الشواهد والوثائق لإجبارهم على الأداء، ولم ترأف قلوبهم لآلاف الأسر المتضررة من الطوارئ الصحية، ولكنهم قرروا أن يضغطوا على الوزارة الوصية لتكون جمل القانون الجديد فضفاضة يسهل التلاعب بها. بحيث تبقى مسألة تدقيق رسوم التسجيل والتأمين والاعتماد على الأطر التربوية والإدارية الخاصة فضلا عن تقديم الخدمات بالمجان لنسبة من الأطفال الفقراء على حالها ليتسنى لهذا اللوبي النافذ تعويم مواد القانون المذكور، مثلما تم طيلة سنوات من الريع، تعويم مواد قانون 006 المنظم للقطاع.
فإذا عدنا إلى المادتين 13 و14 من القانون الإطار نجد أن مؤسسات القطاع الخاص “مجبرة على الالتزام بمبادئ المرفق العمومي في تقديم خدماتها والمساهمة في توفير خدمة التربية والتعليم والتكوين لأبناء الأسر المعوزة”، وأنه تتوجب على الحكومة “مراجعة نظام الترخيص والاعتماد والاعتراف بالشهادات، ومنظومة المراقبة والتقييم المطبقة على المؤسسات المذكورة، من أجل ضمان تقيدها بالنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل وبالدلائل المرجعية لمعايير الجودة”، وهي كلها إجراءات يعمل فريق العثماني، بالتعاون مع لوبي القطاع الخاص الذي يسيطر على هيئات مهنية معروفة، على إفراغها من مضمونها لتبقى الفوضى والتسيب، ويبقى ابتزاز الآباء تحت مسميات كثيرة.
نحن في مفترق طرق مرة أخرى، فمثلما انتصرت قيم الوطنية والتقدم والعلم على الأهواء والأوهام في مسألة التناوب اللغوي، فإنه يتوجب علينا أن نخوض المعركة ذاتها ليبقى التعليم خدمة عمومية والاستثمار فيه استثمارا في الرأسمال البشري، معركة ليكون المستثمرون في القطاع الخاص شركاء حقيقيين وليسوا مخاتلين جشعين كما هو حال بعضهم الآن.
يتعلق الأمر إذن بمعركة قانونية على غرار تلك التي عرفها البرلمان على هامش المصادقة على القانون الإطار، عندما حدث “بلوكاج” كبير بسبب مفاهيم حاول بنكيران استغلالها لتجريب “قدرته” على التأثير والعودة للحياة السياسية. فبمجرد الإعلان عن مشروعي مرسومين، يتعلق الأول بتحديد نسبة مساهمة مؤسسات القطاع الخاص في تقديم خدماتها بالمجان لأبناء الأسر المعوزة، ويتعلق الثاني بتحديد معايير مراجعة رسوم التسجيل والدراسة والتأمين والخدمات ذات الصلة بالتربية والتكوين بالمؤسسات الخاصة، حتى بدأت مرة أخرى الاتصالات، وهذه المرة يطل رأس بنكيران مرة أخرى عبر مقربيه في بعض الهيئات الممثلة للقطاع الخاص، والذين يضغطون بكل الوسائل ليكون المرسومان غير حاسمين، حيث اقترحوا مسودات تتضمن عبارات إنشائية الغرض منها عدم الحسم في مسألة رسوم التسجيل والدراسة والتأمين والدعم التربوي وهي مجالات تمثل الدجاجة التي تبيض ذهبا للوبيات القطاع الخاص.
إذا استحضرنا هذه المعارك وتشجيع العثماني للهجرة من القطاع الخاص إلى العام في التعليم، سنعرف حجم التناقض الذي يسم سلوك الحزب الأغلبي في التعاطي مع التعليم الخصوصي مرة أخرى. فمن جهة تعتمد مقاطعات انتخابية كبيرة في المدن الكبرى على تمويلات أرباب المؤسسات الخاصة، وهؤلاء يستخدمون أطرا يتم توظيفها في الحملات الانتخابية في نفس الوقت، وفي نفس الوقت يتوجب على الحزب أن يظهر بمظهر المتفهم لظروف العائلات المتضررة من وباء كورونا.
فالعثماني الذي يفتخر بانتقال أكثر من 30 ألف تلميذ من القطاع الخاص إلى العام لم يقل الحقيقة حين قال ذلك، لم يقل إن سبب هذا هو عدم تنظيم رسوم التسجيل والدراسة والتأمينات، وخاصة في مستوى التعليم الثانوي. حيث تتعرض الأسر لابتزاز كبير مع قرب انتهاء المسار الدراسي للتلميذ، الأمر الذي يدفع آلاف الأسر إلى تفضيل تسجيل أبنائها في القطاع العام ابتداء من التعليم الإعدادي والثانوي.
لذلك ففرض مسألة مساهمة مؤسسات التعليم الخاصة في تعليم الفقراء، خصوصا في ظل غياب التوازن على مستوى الحق في التعليم بين المناطق في الجهات التي تنتشر فيها هذه المؤسسات، سيعيد التوازن بين الحق والواجب، هذا التوازن الذي اختل بشكل ملحوظ في العشر سنوات الأخيرة، حيث تحولت المؤسسات الخاصة إلى مؤسسات ريع.