شوف تشوف

الرئيسية

الحق في الكسل

حوار مع رولان بارت

ترجمة وتقديم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

كثيرا ما ينصرف اهتمام الكتاب والمفكرين إلى مفهوم العمل فيوسعونه تنظيرا وتحليلا، غير آبهين بمفهوم آخر قد يحمل قيمة مضادة أو دلالة قدحية تستوجب الازدراء، هو مفهوم الكسل. رولان بارت (1915-1980) المفكر والناقد الفرنسي، أحد أعلام الاتجاه البنيوي في النقد الأدبي، كما ساهمت أعماله السيميولوجية في ارتياد عدة آفاق غير مسبوقة كسر فيها ثوابت البحث الأكاديمي، كما هو الشأن في هذا الحوار المخصص لموضوع الكسل، والمنشور في أحد أعداد الملحق الثقافي لجريدة «Le monde».
إن السمة الغالبة على تفكير رولان بارت هي تعدد اهتماماته الفكرية والأكاديمية المتجددة دوما، ما انعكس على إنتاجاته الفكرية والنقدية واعتداده بحرية التفكير، ما جعل الكثير من مؤلفاته مغامرات فكرية حقيقية يخوضها رولان بارت مثل «درجة الصفر في الكتابة» (1953) و«أساطير» (1957) و«مقالات نقدية» (1964)… أو كما وصفه الكاتب الإنجليزي المختص في الأدب الفرنسي فيليب ثودي: «إنه موهوب ولكنه مفكر غريب الأطوار، مليء بالأفكار الجيدة وهو يشطح إلى أفكار خارجة عن الموضوع. وبارت من ناحية متألق كفء وبراغماتي متميز، ومن ناحية أخرى مفكر منهجي».
خاصية ميزت رولان بارت هي احتفاؤه بالذات والحفر في الذاكرة من خلال كتابيه في السيرة الذاتية «رولان بارت بقلم رولان بارت» 1975 و«شذرات من خطاب عاشق» 1977. لقد كان لرولان بارت تأثير كبير على المفكرين الطليعيين في فرنسا في الشطر الثاني من القرن العشرين، مثل ميشيل فوكو وجاك ديريدا… كما كان لمفاهيمه النقدية الجديدة دور أساسي في تطوير النقد الأدبي ليس في فرنسا وحدها بل في العالم بأكمله، مثل مفهوم «موت المؤلف» أو «لذة النص» أو «درجة الصفر في الكتابة».
في هذا الحوار حول الكسل، يكشف رولان بارت طبيعة أخرى له، ذلك الكسل القريب منا، والمعيش والمألوف… أهم ما يصل إليه بارت، في تحليله، أن الكسل أنواع متعددة، هناك الكسل المؤلم والمبهج والبئيس، والكسل الناجم عن انزياح داخلي، أي إرادي، والكسل الناجم عن انزياح خارجي، أي بفعل الآخرين. كما أنه يذهب إلى التساؤل عن إمكانية وجود فلسفة ما لموضوع الكسل، وعن وضعية قانونية وحقوقية للكسل… قد لا نتفق مع بارت بالضرورة إذا كنا نعالج الموضوع من وجهة تربوية أو حتى أخلاقية، لكن ثمة طرافة وتصور مختلف لموضوع الكسل وتحليل للظاهرة من زاوية أخرى غير مألوفة تستحق، دون شك، القراءة وأن تكون نموذجا لتفكير رولان بارت ومنهجه في التحليل.

كريستين إيف: الكسل عنصر الميثولوجيا والأساطير التي تنتجها المدرسة، كيف تحلل ذلك؟
رولان بارت: ليس الكسل أسطورة. إنه معطى أساسي وطبيعي لوضعية التمدرس. لماذا؟ لأن المدرسة بنية قهر، بالنسبة للتلميذ وسيلة للاحتيال على هذا القهر. الفصل الدراسي يحتوي على قوة ضغط ليس أقلها أننا نرغم المراهق على تعلم أشياء لا يرغب فيها بالضرورة، يمكن أن يكون الكسل جوابا تجاه هذا الضغط، وخطة ذاتية (تكتيك) لتحمل ضجره، وإظهار الوعي به وبشكل آخر استيعابه. وهو ليس بالجواب المباشر، ولا بالاحتجاج الصريح..، لأن التلميذ لا يمتلك وسائل لمواجهة تلك الضغوطات. إنه جواب ملتف لتفادي الأزمة وتجنبها… إذا نظرنا إلى الجذر اللاتيني لكلمة (الكسل)، فهو يعني بطيء. إنه الصورة الأكثر سلبية، والأكثر بؤسا للكسل، الذي يعني حينها، إنجاز الأشياء لكن بطريقة سيئة، وعن غير طيب خاطر لإرضاء المؤسسة بمنحها جوابا، لكنه جواب متماطل… لم أكن أستاذا سوى لسنة واحدة، وليس من عملي ذاك سأستخلص فكرتي عن الكسل… بل من تجربتي الخاصة باعتباري تلميذا سابقا… إني أجده في حياتي اليومية تلقائيا، لكن على شكل صورة استعارية ليست لها أي علاقة بكسل التلميذ. في الغالب أمام مهمات كثيرة الضجر، كالمراسلات وقراءة المخطوطات، أقاوم وأردد مع نفسي بأني غير قادر على إنجازها… الأمر يتعلق في تلك اللحظات بتجربة مؤلمة للكسل في حدود كونها تجربة مؤلمة لقوة الإرادة.

كريستين إيف: ما المكان الذي يحتله الكسل في حياتك وفي عملك؟ وهل يحدث لك أن تستسلم له؟
رولان بارت: سأكون ميالا إلى القول إن الكسل لا يحتل أي مكان في حياتي. لكن هذا خطأ أشعر به كما لو أنه نقص أو عيب. في الغالب أضع نفسي في وضعية صراع لإنجاز الأعمال، حينما لا أقوم بها، أو على الأقل في المدة التي لا أقوم فيها بإنجاز تلك الأعمال، لأنني في العموم أنتهي من إنجازها. يتعلق الأمر بكسل أرغم عليه، بدلا من أن أكون قد اخترته أو أفرض نفسي عليه… في فترة من حياتي بعد القيلولة، كنت أمنح نفسي بعضا من هذا الكسل المبهج والذي لا يعرف شكل الصراع. كنت أتلقى بتراخ أوامر جسدي، كنت لا أحاول أن أقوم بعمل ما… كنت أترك الأمور على عواهنها. لكن في القرية، وفي فصل الصيف كنت أرسم قليلا، وأقوم ببعض الإصلاحات المنزلية كما شأن الكثير من الفرنسيين. أما في باريس فأكون موزعا بين الحاجة إلى العمل، والعجز عنه. كنت أدع نفسي تستسلم لهذا الشكل من الكسل الذي هو عبارة عن انزياح، وتكرار لانزياحات نقوم بخلقها، مثل تحضير فنجان قهوة أو شرب كأس ما… إلخ.. من جهة أخرى، وبكل ما في الأمر من سوء نية، ما أن يطرأ انزياح من الخارج، وبدلا من أن أتلقاه لقاء حسنا، فإني أكون غاضبا جدا ضد من يكون سببا فيه. يحدث لي أن أتحمل بانزعاج المكالمات أو الزيارات التي بالفعل لا تربك سوى عمل قد لا ينجز. كنت أعاني، أيضا بجانب هذه الانزياحات، شكلا آخر من الكسل المؤلم، يمكن أن أنسبه إلى فلوبير الذي كان يسميه عملية «التنقيع- La marinade»، ويعني ذلك أن نرتمي في سريرنا دون القيام بشيء، الأفكار تدور في فراغ ونحن متوترون بعض الشيء. أمثال هذه الحالة عشتها مرات ومرات. لكنها، أبدا لا تدوم طويلا، ربع ساعة أو عشرين دقيقة بعدها أسترجع شجاعتي… وأتألم لأني لا أملك القدرة والحرية بألا أقوم بشيء… ثمة لحظات، مع ذلك، أتمنى في الحقيقة أن أرتاح. لكن كما يقول أيضا فلوبير: «كيف يتأتى لي أن أرتاح؟». يمكن لي أن أقول إني غير قادر على أن تكون لي حياة فارغة، إني لا أتمتع بوقت ثالث، فما عدا الأصدقاء، ليس لي سوى العمل أو الكسل البئيس. لم أحب أبدا مزاولة الرياضة، والآن على كل حال جاوزت سن الممارسة. إذا، ماذا تريدون من شخص مثلي أن يفعل، إذا قرر ألا يعمل شيئا؟ أن أقرأ؟ لكن، ذلك هو عملي. أن أكتب؟؟ فذلك أيضا عملي. لذلك كنت أحب الرسم كثيرا، فهو نشاط مجاني، جسدي وجمالي. ورغم كل شيء وفي نفس الآن، هو راحة حقيقية، وكسل حقيقي ولأني لست إلا هاويا، فقد كنت لا أوليه أي نوع من النرجسية. فلم يكن يهمني أن أرسم جيدا أو سيئا… يجب أن نتساءل أيضا عن معنى الكسل في الحياة المعاصرة. ألم تلاحظوا أننا نتحدث دائما عن الحق في الوقت الثالث، وليس عن الحق في الكسل.
من جهة أخرى، أتساءل هل يوجد لدينا نحن الغربيين والمعاصرين شيئا يسمى «لا أقوم بشيء»؟ فحتى بالنسبة للذين لهم حياة مختلفة عن حياتي، وهي أكثر استلابا، وأكثر صعوبة… عندما يكونون «أحرارا» وعاطلين ولا عمل لهم، فإنهم دائما يقومون بعمل ما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى