شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

الحسن بروكسي.. رحيل علبة إدريس البصري السوداء

«الأخبار» تنشر أقوى مضامين تسجيلات معه

يونس جنوحي

«السبت الماضي غادر الحياة في صمت، واحد من أشهر أعلام المغرب في مجال إعداد التراب. الدكتور الحسن بروكسي الذي انفردنا في «الأخبار» بنشر حلقات مطولة معه سنة 2014، استعرضنا فيها مساره الأكاديمي والإداري أيضا.

الحسن بروكسي، أو الرجل الذي صنع إدريس البصري مجده الإداري في وزارة الداخلية على أنقاضه.

خلال جلسات مطولة، أثناء تسجيل الحلقات مع الحسن بروكسي في مدينة الرباط، كان الرجل لا يعدم تعبيرا لتفسير حاله، والكشف عن وقائع تحرجه شخصيا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بطريقة تدبير إدريس البصري لوزارة الداخلية.

بروكسي عمل مع البصري منذ أيام مكتب الشؤون السياسية في وزارة الداخلية، ورافقه إلى أن «تغوّل» با إدريس وأصبح وزيرا فوق العادة.

مهمة صعبة فعلا اختصار تجربة الحسن بروكسي، الذي نُسي في أيامه الأخيرة، رغم أنه أول مغربي يتخصص في فرنسا في التدبير الإداري، وعُين فور التحاقه بالمغرب في وزارة الداخلية، وكان وراء إعداد تقارير غيرت الكثير في الساحة السياسية.. رحمه الله».

 

++++++++++++++++++++++++++++++++

 

رجل الظل.. ألّف الكتب وحاضر في الجامعات واعترف بأن «لعنة» البصري لم تُفارقه

قصة حياة الحسن بروكسي ليست فقط حافلة بالأحداث، بل إنه عاش في قلب ملفات وكواليس سياسية وشارك في صنع أخرى. من طفل بسيط يرعى الغنم إلى رجل يقول الكثيرون، من أهل الحال، إنه من صنع فعلا شخصية إدريس البصري ولمّعها في قلب وزارة الداخلية.

إذ إن الرجلين التقيا في بداية السبعينيات، وكل واحد منهما قادم من مسار مختلف، ليجمعهما مكتب الشؤون السياسية في وزارة الداخلية. حتى أن بروكسي نفسه يقول إن البصري سرق منه الكثير من التقارير ونسبها إلى نفسه، وهي التي عبدت الطريق أمامه لكي يصبح على رأس «أم الوزارات».

في سنة 2014، أجرينا في «الأخبار» حلقات مطولة مع الحسن بروكسي، أخرج فيها ما لم ينشره مسبقا في كتاب تحدث فيه عن «بعض» ما عاشه مع إدريس البصري، واختار له عنوان: «الحسن الثاني.. البصري وأنا». وطبعا فإن بروكسي بحكم تكوينه الإداري والأكاديمي أيضا، فقد كتب الكتاب بالفرنسية.

في هذه الحلقات التي انفردنا فيها بنشر معطيات وشهادات حصرية لأول مرة، يتناول الحسن بروكسي جانبا مظلما من علاقته بإدريس البصري. يقول:

«أنا عرفت البصري منذ كان يتابع دراسته، كان ضعيفا جدا في اللغة الفرنسية، ولا يفقه شيئا في اللغة العربية. لكنه عندما طور نفسه تغير بشكل باهر. أصبحت فرنسيته متينة وعربيته أيضا.

البصري داهية حقيقي. عندما كنت ألتقيه في فرنسا، وكنت أتابع دراستي حينها في تخصص إعداد التراب والأسس المرتبطة بمسألة الجهوية والجهوية الموسعة، كان البصري يطلب مني أوراق الدروس حتى يطلع عليها، رغم أن مجال دراسته كان مختلفا. وكنت أشترط عليه أن يؤدي ثمن الغداء أو العشاء حتى أسمح له بالحصول عليها، لكنه كان ينتظر إلى أن أغيب ويسرقها مني.. مرت السنوات وكلفت بمسألة الجهوية وإعداد التراب الوطني، ووجدت أن البصري يسايرني في ما أقوم به ويفهم كثيرا من الأمور المرتبطة بمسألة الجهوية.. فتذكرت السبب الذي كان يجعله يقدم على سرقة أوراق الدروس.

أقول هذا الكلام لأوضح كيف كان البصري يطور نفسه ويتعلم».

 

 

===================

مؤطر:

بروكسي: البصري أهانني وأنا أستاذ جامعي وبرلماني وألبسني «طابلية» لأخدم ضيوفه

يحكي الحسن بروكسي كيف أهانه إدريس البصري ذات مرة، وألبسه «الطابلية» لخدمة ضيوفه، ردا من الوزير على قرار بروكسي عندما غادر وزارة الداخلية، واتجه إلى التدريس الجامعي وترشح للبرلمان.

يقول: «كنتُ حينها قد توجهت إلى البرلمان، وأتردد على بيت البصري بين الفينة والأخرى. قال لي إدريس أن آتي عنده، لأنه سيستقبل الدليمي ووزير المالية عبد القادر بنسليمان، وهو أول وزير «عروبي» يصبح وزيرا للمالية في ذلك الوقت، لأنه يتحدر من منطقة زعير، وكانت تربطه بالدليمي صداقة متينة، ومن المرجح أن يكون هو الذي رشحه حتى يصبح وزيرا».

 

ماذا دار في ذلك المجلس؟

+عندما أصبحت نائبا برلمانيا ولم أعد أشتغل في مكتب الداخلية، رغم ضغوط البصري حتى أبقى إلى جانبه، أراد أن يهينني لأنني خرجت رغم أنفه، وعندما وصلت إلى بيته فوجئت بأنه يطلب مني أن أرتدي «طابلية»، لأشرف على راحة البصري وضيوفه وأقوم بعمل «الخادم».

 

كيف أخبرك البصري بالأمر؟

+قال لي إنه لا يتوفر على «سرباي» في منزله، وإنه يحتاج إلى من يشرف على خدمة الضيفين، فوافقت وارتديت «الطابلية».

كيف قرأت سلوك البصري في ذلك الوقت؟

+البصري لم يتقبل أن أتركه وأخرج من الداخلية، وفي وقت سابق، قال له الدليمي في حضرتي إن بروكسي هو العمود الفقري للداخلية، ولم يقبل البصري الأمر. كما أن وزير الداخلية حينها، السيد بنهيمة، كان يحبني كثيرا ويبدي إعجابه بما أقوم به، وحدث مرة أن قال لي الدليمي إنه يريدني في «لادجيد»، ووقعت في ورطة مع البصري، لأن الدليمي قال هذا الكلام أمامه. أدركت أنني بين فكّي الرجلين القويين، وتملصت من ورطة الدليمي لأمارس مهامي في الداخلية.

 

ماذا كان رد فعل الدليمي عندما وجدك بـ«الطابلية» تقوم بالخدمة في بيت البصري؟

+عندما رآني ابتسم لأنه فهم الأمر، لكنني فوجئت بأن الدليمي كان يحضر معه بعض الشبان، وذهلوا لما رأوني بذلك اللباس أحمل صينية الحلوى وكؤوس الشاي، لأنهم يعرفون أنني أستاذ جامعي وأشرفت على التجنيد المدني.

 

 

==================

قصة نجاح.. بدوي وُلد في خيمة يصبح دكتورا وكاتبا وإطارا في الداخلية

لم يولد الحسن بروكسي في بيئة تُساعد على ما وصل إليه، ليس على المستوى الإداري فحسب، بل على المستوى الأكاديمي أيضا.

إذ رغم أن والده كان من خريجي «كوليج أزرو» الشهير، مع دفعة الجنرال أوفقير ووالد الجنرال الدليمي، الحسن الدليمي، إلا أن الابن الحسن لم يكن محظوظا مثل والده، سيما وأنه عاش حرمانا كبيرا في مرحلة الطفولة، قبل أن يتم تصحيح الوضع ويلج إلى المدرسة، وينطلق منها إلى الترقي الأكاديمي والوظيفي أيضا.

يقول متحدثا عن بداياته:

«وُلدت سنة 1939 في «تيدّاس»، وهي منطقة في هضاب الأطلس المتوسط، تبعد عن الرباط بـ80 كيلومترا، غير بعيد عن زعير ومولاي بوعزة، ولا تبعد عنها مكناس كثيرا. وُلدت في أسرة بدوية، في خيمة. كانت أمي تمسك في يدها حبلا وعندما خرجت إلى الدنيا، استقبلتني حفرة، وكانت هذه عادة البدو، لم يكن هناك لا أطباء ولا مستشفيات. الناس يسكنون الخيام، وعندما تحس المرأة الحامل باقتراب موعد الوضع، تمسك في يدها حبلا، وتلد، وما زال البدو إلى اليوم يعيشون هذا الوضع. واليوم، وقد أصبحت شيخا، أزور المنطقة التي ولدت فيها، ويسألني الناس كيف أنك ولدت في تلك الظروف في خيمة واستطعت أن تصبح كاتبا؟

للأسف تطلق والداي. أمي تزوجت، ووالدي لم يكن يقيم معنا بحكم عمله، وهكذا احتضنتي جدتي. كانت قاسية وصارمة، كانت «رجلا»، وهي التي نحتت شخصيتي وهيأتني لتحمل أعباء الحياة التي سأعيشها في ما بعد.

بقيت في كنف جدتي إلى أن صار عمري 4 سنوات، بعدها توفيت جدتي وبقيت وحيدا، وصحبني والدي، وعندما طلّق والدتي عدت مرة أخرى إلى «تيدّاس» ولم أبق مع والدتي، ورعاني جدي، واعتمدت على نفسي في تدبر معيشتي وأصبحت راعي غنم لفترة طويلة».

هنا يستحضر الحسن بروكسي اللحظة الفارقة التي غيرت حياته إلى الأبد، وكيف انتشله الحاكم العسكري الفرنسي من الأمية، لكي يلتحق بالدراسة. يقول:

«عندما كنت أمارس الرعي، كنت أنطلق خارج حدود القبيلة التي أنتمي إليها، أهيم في الأرض الواسعة. مرة كنت قرب شجرة على قارعة الطريق، أراقب القطيع الذي أرعاه، فاستسلمت لإغفاءة لم أستيقظ منها إلا على وقع عصا غليظة يحملها الحاكم، وكان فرنسيا بطبيعة الحال، فضربني، ثم توجه بالسؤال إلى مخزني كان يرافقه: «ماذا يفعل هذا الصبي هنا؟»، فكان جواب المخزني أن قال للحاكم إنني راعي غنم أتردد على هذا المكان وأتوه كثيرا، وإن أبي يعمل ترجمانا في خنيفرة. فكان أن أصيب الحاكم بالدهشة (..) لأن أبي كان يعمل ترجمانا.. الحاكم لم يستسغ أن يكون ابن موظف درس في مدرسة أزرو، التي كانت مضربا للمثل، راعيا للغنم».

تفوق بروكسي في الدراسة، وسرعان ما رشحه مدير فرنسي للمدرسة، لكي يتم تعليمه في ثانوية مولاي يوسف في الرباط، ويحصل على شهادة البكالوريا في أجواء سياسية محمومة، قبل استقلال المغرب. حكى الحسن بروكسي في هذه المذكرات التي سوف نتفصل فيها في هذا الملف، كيف أنه تعرف على الأمير مولاي الحسن والأمير مولاي عبد الله، عندما كان الأميران معا يتواصلان مع تلاميذ ثانوية مولاي يوسف في الوقت نفسه الذي كانا فيه يدرسان في المدرسة المولوية، وكيف أن حياته الجديدة في الرباط فتحت عينيه لكي يتدارك ما فاته في طفولته، ويحقق التفوق الأكاديمي بعد نيله شهادة الدكتوراه في فرنسا، وتخصص في التوزيع الترابي ويلتحق بالمغرب مع بداية السبعينيات، لكي يعمل إطارا في وزارة الداخلية ويلتقي هناك إدريس البصري، الذي كان يستعد لكي يصبح أقوى وزير للداخلية في تاريخ المغرب.

علبة أسرار البصري يتحدث عن «إدريس» ما قبل الوزارة

يحكي الحسن بروكسي عن تفاصيل مهمة من حياة الوزير إدريس البصري. مناطق الظل كما مناطق الضوء. وربما يكون الحسن بروكسي أقرب من عملوا مع البصري في الوزارة، خصوصا وأنه كان يصحبه معه إلى منزل العائلة الذي نشأ فيه لزيارة والديه، في عز هيمنته على مكتب الشؤون السياسية، مع اقتراب جلوسه على كرسي وزارة الداخلية.

يقول بروكسي في هذا الصدد:

«والد البصري كان كفيفا ومريضا، وعاش إدريس طفولة صعبة للغاية. ولا أظن أبدا أنه انقلب على ماضيه، بل بالعكس بقي على طبعه، رغم التحولات الكبيرة التي شهدتها حياته.

كنا مقربين حتى قبل أن أزور منزل والديه، ولم يشفع التقارب بيننا عندما قررت أن أقاطعه نهائيا.. في إحدى المرات سمعت أن والد إدريس البصري مريض جدا، وكان إدريس مشغولا يومها، فذهبت إلى سطات كي أزور والده دون علمه، ولما رأيت حالته الصحية الحرجة أحضرت سيارة إسعاف ونقلته إلى الرباط للاستشفاء، ولم أخبر إدريس بالأمر إلا عندما أصبح والده في الرباط، وأجرينا له التحاليل أنا ومولاي إدريس عرشان في المستشفى العسكري».

حياة إدريس البصري قبل الوزارة تستحق فعلا أن يُسلط عليها الضوء، لأنه تسلق السلم الوظيفي «برشاقة» قل نظيرها، لكي يصل إلى القمة، رغم أنه بدأ من أسفل الوظيفة، وكان معه الحسن بروكسي وقتها يعملان موظفين في وزارة الداخلية. البصري قدم إلى الداخلية من جهاز الأمن والشرطة، بينما بروكسي قدم إليها من الباب الأكاديمي، بحكم أنه حصل على شهادة الدكتوراه في الإعداد الترابي ويُعتبر أحد القلائل الملمين بالمجال الإداري والترابي.

يستحضر بروكسي أيامه الأولى مع البصري بالقول في هذا المقطع من الحوار المطول خلال هذه المذكرات:

«كان إدريس البصري يسكن في مكان قريب جدا من مكتبه، كانت هناك منازل صغيرة للبوليس الموظفين، وكان إدريس يسكن في واحد منها، كان مسكنا بسيطا جدا في مقر الإدارة.

 

هل كان هذا أيام الجنرال أوفقير؟

+نعم في بداية السبعينيات، وكان يسكن قربه رجال من البوليس محسوبون على رجال أوفقير. وكان البصري يتذمر من «كوميسير» يسكن أمامه، يواظب على إعداد الشواء وتصل رائحته إلى منزل البصري. وقال لي إدريس إن زوجته كادت تجهض مرتين، بسبب رائحة الشواء التي كانت تستفزه، لأن أسرته تأكل العدس..

 

لكنه كان «كوميسيرا» أيضا في ذلك الوقت؟

+رغم ذلك كان يعيش ظروفا صعبة وكان فقيرا، جميع أصدقائه يعلمون هذا. عندما كان يسكن في مساكن الإدارة وحتى عندما تحول إلى شقة صغيرة بأكدال، كان فقيرا. كنت أقول له: «إدريس الله يهديك..»، عبت عليه أن يزوره مسؤولون في المخزن وكبار الشخصيات السياسية، عندما أصبح على رأس مديرية الشؤون السياسية بوزارة الداخلية، وكان يقدم إليهم القهوة في أوان متواضعة جدا وكؤوس زجاجية من تلك التي يشتريها الفقراء في الأسواق الأسبوعية للبوادي. فكان يرد دائما: أنا عروبي».

 

إليكم المقطع الأكثر إثارة من الحوار، وفيه يستحضر الحسن بروكسي أيام إدريس البصري في وزارة الداخلية، أيام لم يكن أحد يتوقع أن يصبح ذاك الموظف النحيف القادم من الهامش، وزيرا للداخلية فوق العادة. يقول:

«عندما أصبح إدريس البصري يسكن أمام القيادة العامة، غير بعيد عن مقر الإذاعة، كنت أزوره دائما مع تمام السابعة صباحا، نشرب القهوة في تلك الكؤوس الرخيصة نفسها ونجلس في جو عائلي، قبل أن نتوجه معا إلى المكتب. ومرة عرض علي أن نمشي إلى العمل سيرا على الأقدام، وترك سيارته التي كانت بسيطة.. فعرفت أنه كان يريد أن يتحدث إلي في موضوع خاص. عندما وصلنا أمام وزارة الفلاحة قال لي إدريس: «لحسن.. أنا سأتوجه إلى مقر الديوان الملكي لأحتج. كيف للكاتب العام أن يتقاضى علاوة قيمتها 2500 درهم، بينما أنا أحصل على الثلث، وأنت تعلم جيدا العمل الذي نقوم به والجهد الذي نبذله». سكتتُ هنيهة وأجبته: «يا إدريس.. أنت تشتغل إلى جوار الملك الحسن الثاني، إنه يختبر صبرك، لا تغضب الملك منك».

 

لكن إدريس البصري أصبح يقابل وزراء كان بعضهم في غاية الثراء، ألم يتذمر من هذا الأمر؟

+عندما كان رجل الأعمال كريم العمراني وزيرا أول، كان يقول لإدريس البصري: «اللي ما عندو فلوس كلامه مسوس»، وكان إدريس يحكي لي عن لقاءاته به، لكنه لم يكن ينظر إليه بعين الغيرة أو الحسد، رغم أنني كنت أستفز إدريس وأقول له إنه أصبح صديقا للبورجوازية.

 

 

ذكريات موظف في الداخلية من قلب إدارة «المسيرة الخضراء»

المسيرة الخضراء جاءت قبل أن يصبح إدريس البصري الوزير الذي عرفه الناس. في نونبر 1975، كان الحسن بروكسي رفقة إدريس البصري يعملان معا في قسم الشؤون السياسية بوزارة الداخلية، وفي ذلك الوقت كان إدريس البصري يترأس العمل المكتبي، ويشرف على تقارير تتعلق بالجهات.

وعندما جاءت التحضيرات للمسيرة الخضراء، كان الحسن بروكسي يعمل في المكتب أولا، ثم انتقل في مرحلة التنفيذ إلى الميدان، وشارك في تنظيم المسيرة، بل وحصل على وسام ملكي بعد نجاح المسيرة الخضراء.

يحكي في مذكراته التي انفردت «الأخبار» بنشرها سنة 2014، على حلقات، عن ذكرياته مع المسيرة الخضراء:

«سأروي لك حادثة طريفة وقعت لوفد من المتطوعين قدموا من الدار البيضاء. كانوا يسيرون قرب متطوعات يتحدرن من منطقة الرشيدية، وكانوا يريدون التحدث إليهن. فتدخل بعض المقدمين ليوقفوا الأمر حتى لا يتحول إلى تحرش أو مواجهات بين رجال القبيلة التي تنتمي إليها النساء وأولئك الشبان القادمين من الدار البيضاء. لكنني تدخلت وقلت للمقدمين أن يتراجعوا ويتركوهم حتى لا يتحول الأمر إلى مواجهة أو تصعيد..

(..) ذهبت مباشرة في اتجاه متطوعين من منطقة الرشيدية، ونبهتهم إلى الأمر. قلت لهم إن بعض الشبان من الدار البيضاء يحاولون الحديث إلى بعض النساء من منطقتكم الرشيدية، فماذا أنتم فاعلون؟ واقترح بعض أولئك الرجال أن يرهبوا الشبان البيضاويين، بدل الدخول معهم في صراع وتتطور الأمور إلى ما هو أسوأ. كان الصحراويون يصطادون الثعابين، ومنهم من تعد تلك الحرفة مورد رزقهم الوحيد. فذهبوا في اتجاه بناتهم، وأطلقوا الثعابين في اتجاه الشبان البيضاويين الذين فروا أول ما رأوا الثعابين قادمة في اتجاههم. وانتهى الأمر دون أن تحدث مواجهة بين الطرفين».

وهنا يحكي بروكسي عن حدث بصم المسيرة الخضراء، وأثار روايات متباينة بعدها، ويتعلق بإطلاق اسم «مسيرة» على أول مولود في الحدث الوطني الأبرز. فقد شاركت في المسيرة نساء حوامل، والنتيجة كانت ميلاد بعض المواليد في قلب المسيرة، أو أثناء الذهاب باتجاه الأقاليم الجنوبية. ووقع ارتباك كبير في صفوف المسؤولين أثناء إعطاء الأمر بتحديد هوية المولود الأول في المسيرة والإقليم الذي ينتمي إليه، وهو ما أثار تنافسا غير مُعلن بين عمال الأقاليم، كل واحد سعى أن يكون «لقب» المولود الأول من نصيب الإقليم الذي يُدبر شؤونه.

يستحضر بروكسي هذه الواقعة:

«سأروي لك واقعة طريفة وقعت لسيدة تتحدر من منطقة الرشيدية. كانت حاملا في شهرها التاسع، وعلى وشك الوضع.. وعندما سمعت نداء الملك الراحل قررت أن تذهب إلى المسيرة الخضراء، رغم أن زوجها امتنع عن الأمر.

لقد حكت لي قصتها عندما اكتشفنا أنها تعاني من آلام المخاض، استدعاني المقدمون وتوجهت إليها وسألتها لماذا أتت إلى المسيرة وهي على وشك الوضع؟ فأخبرتني أنها لم تستطع منع نفسها عندما سمعت نداء الملك على أمواج الراديو، رغم أن زوجها وقف في طريقها وحاول إرهابها، مهددا بتطليقها إن ذهبت إلى المسيرة.

قال لها إنها طالق، وخرجت مع المتطوعين. وحتى أكمل لك، فقد أشرفنا على عملية توليدها، ووضعت أنثى سميتها في تلك اللحظة «مسيرة»».

وفي معرض حديثه عن مشكل تحديد هوية أول مولود في المسيرة، يقول:

«الملك الحسن الثاني رأى في التقارير أن سيدة وضعت مولودا، بالإضافة إلى سيدة أخرى.. لم تكن هي الحالة الوحيدة. وطلب منا الحسن الثاني أن نحضر الأم ومولودتها إليه.. وهنا وقع مشكل.

قلت لهم إن المولود الأول في المسيرة أسميته «مسيرة» وأرسلت المقدم لإحضارها من بلدها، على أن تكون في الصباح الباكر في الدار البيضاء بفندق «رويال منصور»، حتى تلتقي بالملك. لكن المشكل وقع قبل ذلك، إذ إن الجنرال مولاي حفيظ العلوي لم يتقبل أن أتحدث بنبرة الواثق وأحدد المولود الأول في المسيرة، وقال لي بالحرف: «أنت غير مسؤول..»، كان يقصد أن الأمر ليس من اختصاصي، وسكت البصري، ولم يعلق على الأمر».

 

بروكسي: البصري قال لي إن الجنرال الدليمي سوف يقتلني ويقتلك

يحكي الحسن بروكسي عن واقعة غاية في الأهمية، حضرها بنفسه أيام كان يشتغل رفقة إدريس البصري، وكان البصري وقتها وزيرا للداخلية. الواقعة تعود إلى سنة 1982، وكان البصري وقتها يشرف على مجموعة من الطلبة الباحثين في الإدارة. وجاء بهم بنفسه لكي يلتقوا بالجنرال الدليمي ويطرحوا عليه بعض الأسئلة بخصوص قضية الصحراء، خصوصا وأن الجنرال الدليمي كان وقتها المسؤول الأول عن العمليات العسكرية في الصحراء المغربية، بتكليف من الملك الراحل الحسن الثاني.

يقول بروكسي في مقطع من مذكراته المثيرة مع «الأخبار»، وهو يتحدث عن العلاقة بين إدريس البصري وزيرا للداخلية، والجنرال الدليمي:

«مباشرة بعد عودتي من المسيرة الخضراء، دخلت فندق «المامونية» ووجدت الجنرال الدليمي وإدريس البصري يجلسان في طاولة واحدة. طلب مني إدريس أن أعد تقريرا شاملا حتى يقدمه إلى الملك. وهنا قاطعه الدليمي وقال له إنني متعب وما زالت ملابسي تحمل أثر السفر، وأمره أن يشتري لي بذلة جديدة وأستحم، لأنه يستعد لاستقبال ممثل الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، وطلب الجنرال الدليمي أن أكون أنا في استقباله ومرافقته.

 

هل كان الدليمي يتحدث دائما إلى البصري بنبرة آمرة؟

+الدليمي خاطب البصري بتلك الطريقة، لأن ملابسي كانت متسخة جدا، وكنت غاية في التعب، بالإضافة إلى أنه كان يعرف والدي جيدا.

 

ألم تنفذ أمر إدريس البصري؟

+نفذته وأعددت له تقريرا شاملا عن المسيرة وقدمه إلى الملك الحسن الثاني. كتبت فيه للملك إن الشعب لم يقبل العلماء واضطررنا إلى عزلهم في المسيرة.

 

أي علماء؟

+أعضاء رابطة العلماء، لم يتجاوب معهم الناس في المسيرة. لقد كتبت هذه النقطة في التقرير الذي رُفع إلى الملك، وعزوتها إلى تعلق الناس بالفقهاء.

 

نعود إلى استقبال مبعوث جيسكار ديستان إلى المغرب؟

+قبل أن يستقبله الملك الحسن الثاني، كنت مكلفا باستقباله والحديث إليه عن موضوع الصحراء والمسيرة الخضراء التي كانت تشغل الرأي العام بشكل كبير. تركته يتحدث وقال لي كلاما قرأت من خلاله أنه يتحدث عن الصحراء وكأنها دولة أخرى.

 

كيف؟

+قال لي إننا بعد المسيرة الخضراء سنكون مطالبين ببدء التعمير، وسنغير المناخ الصحراوي وطبيعته وكأننا دخلاء على تلك الأرض.

 

لكن الرئيس الفرنسي ديستان لم يكن له موقف سلبي من المغرب بعد المسيرة الخضراء؟

+المبعوث الفرنسي قال لي بعد أن أنهى الكلام عن موقفه، بأنه على كل حال سيبلغ الملك دعم جيسكار ديستان وتهنئته له.. لاحظت أن المسؤول الفرنسي كان لديه موقف سلبي من قضية الصحراء، وهنا أعطيته دروسا في التاريخ وذكرته بأن بلاده فرنسا هي المسؤولة عما وقع في الصحراء، بعد سياسة التقسيم التي اعتمدتها ووضع خريطة بالحدود التي أثارت كل المشاكل التي عرفها المغرب. والآن يأتي مسؤول فرنسي ليشكك في مغربية الصحراء التي تربط قبائلها روابط تاريخية مع الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب، وأننا أمة قوية. وذكرته أيضا بأن تاريخنا يمتد إلى الأندلس، وقلت له إن فرنسا لديها مشاكل حدودية مع مناطق مثل كورسيكا ونيس وغيرهما.. وبالمنطق الذي يتحدث به، فإنها «ماشي ديالهم» أيضا. حينها صمت المبعوث الفرنسي عن الكلام».

بالعودة إلى أجواء لقاء الجنرال الدليمي مع الطلبة الذين أحضرهم إليه إدريس البصري، يقول بروكسي الذي كان حاضرا في ذلك اللقاء:

«كيف تعامل الدليمي مع أولئك الطلبة؟

+كانوا يوجهون إليه أسئلة محرجة بخصوص التنسيق مع العسكر في الصحراء وهجمات البوليساريو، وكواليس بناء الجدار الأمني العازل. كانت هذه مواضيع شائكة، والدليمي كان معروفا بالغموض والدهاء، وكانوا يوجهون إليه أسئلة يستحيل أن يجيب عنها، لأنها تدخل في الأمور السرية والأمنية للدولة، وأخذتُ الكلمة في ذلك الجو..

(..)

هل كانت الجلسة معدة أصلا لإلقاء الأسئلة على الدليمي؟

+الطلبة جاء بهم البصري لذلك الغرض بالذات، أما جلساته مع الدليمي وآخرين فكانت بهدف لعب «الكارطة». كان البصري مولوعا كبيرا بها.

 

هل كان البصري يربط علاقات مع طلبته؟

+طلبة الجامعة كانوا ينظرون إلى وزارة الداخلية على أنها جهاز مخابرات، وقد مررت أنا من هذه التجربة عندما كنت ألقي محاضرات بجامعة الدار البيضاء. كلما بدأت في الحديث إلى الطلبة، كنت أسمع أصواتا من أماكن مختلفة من المدرجات، يصيح أصحابها: «وا الداخلية..» والوشوشة، وكأنها تهمة، رغم أنني كنت أحاضر هناك بصفتي الجامعية والتخصص الذي درسته بفرنسا.

 

ألم ينزعج البصري من مداخلتك التي أثنيت فيها على الدليمي؟

+انزعج كثيرا، عندما ذهب الجنرال والطلبة وبقينا وحدنا في منزل البصري، عاب علي أن أقول الكلام الذي قلته في حق الدليمي، وأضاف: «راه الدليمي يقتلني ويقتلك»».

 

 

 

بروكسي: زُرت البصري مباشرة بعد إعفائه وكان لقاء مُبكيا

علاقة إدريس البصري مع الحسن بروكسي، الذي رافقه في العمل قبل أن يكون وزيرا للداخلية، انقطعت تماما منذ 1986، ولم يعد بروكسي يلتقي الوزير البصري الذي أصبح وزيرا فوق العادة. لكن بروكسي، عندما سمع عن انكسار البصري وزواله من السلطة، توجه إليه لكي يزوره.

يقول الحسن بروكسي متحدثا عن زيارته إلى إدريس البصري في بيته يوما واحدا بعد انتشار خبر إعفائه في الصحافة، وكان هذا سنة 1999:

«ما سأقوله لك الآن قاله البصري بنفسه وهو يحكي عن آخر لحظاته في العمل. قال إنه ذهب إلى قصر مراكش، وجلس في انتظار إبلاغه الرسمي بمنصب كاتب الدولة. جاء عنده أحدهم، وقال له إنه بعد قليل سيتم إخباره رسميا بأنه أصبح كاتبا للدولة. فقال «واخا»، وجلس ينتظر لمدة ساعة تقريبا ولم يستقبله أحد، وفي الأخير أبلغ أنه لم يعد وزيرا للداخلية، وغادر نهائيا».

أول من زار إدريس البصري بعد مغادرة الوزارة كان هو المحجوبي أحرضان، في وقت لم يقو السياسيون على زيارته بعد إبعاده. يقول بروكسي عن هذه الحقيقة: «فعلا أول من زار إدريس البصري بعد إقالته من مهامه في وزارة الداخلية، كان هو المحجوبي أحرضان، وقد أهداه لوحة رسمها له».

ماذا يعني أن يكون أحرضان أول زائر للبصري.. خصوصا وأن الأخير كان قد منعه من إقامة مؤتمر الحزب، ولم تكن علاقتهما على ما يرام عندما كان أحرضان مغضوبا عليه؟

+أحرضان أراد طي تلك الصفحة. كان البصري عندما يرى أحرضان يناديه بـ«خويا أحرضان»، وكنت أنا وقتها أمثل الحزب في البرلمان في السبعينيات، وكانت مواقفنا مشاغبة وتثير غضب البصري، لكنه كان ينادي أحرضان بـ«خويا». وكان أحرضان يجيبه: «أخي إدريس لا تثق بالمحيطين بك، عندما تخلع عنك سلهام المخزن لن يعرفك أحد». أحرضان قال له هذا الكلام في السبعينيات، وكان السبّاق إلى زيارته بعد إقالته تأكيدا لذلك الكلام».

أما عن زيارة بروكسي إلى البصري، فقد قال عنها ما يلي:

«زرته في بيته في اليوم الموالي. لم أصدم بعزله، كنت أعرف أنه انتهى منذ وقت طويل، وما وصل إليه حذرته منه. لكني لم أتمالك نفسي عندما وقفت في بيته.. كنت لا أغادر بيته أيام مجده وسلطته، بكيت وعانقته، وكان أحرضان حاضرا.

لم ينطق بكلمة. بقي صامتا وكنت أنا أتكلم، قلت له إنني لم أبك لأنه لم يعد وزيرا للداخلية، بل بكيت لأن أولئك الذين كانوا يأتون إليه في جوف الليل وينادونه بـ«سيدي»، أصبحوا «يمرمدونه» اليوم. قلت له أن يبقى صامدا كالصخرة، لأن التاريخ سينصفه يوما، وسيعلم المغاربة أنه كان يعمل بالليل والنهار من أجل البلاد، وسيعلمون أن أيامه لم تكن فيها فوضى، وسيعلمون أيضا أنك ابن الشعب ووصلت إلى قمة السلطة بفضل عملك وكفاحك.. انهض وهيا بنا إلى «الكولف».

ذهبنا إلى «الكولف» بالرباط، حتى يرانا الناس معا، ويعلموا أن البصري بخير بعد أن رأوه يلعب. عندما رأوني مع البصري أراد أحدهم استفزازي فقال لي: «لحسن.. أراك قد نحفت». فأجبته على الفور: «لأن المخزن قطع عنّي البزولة». أما عن سبب مرافقتي لإدريس إلى الكولف، فقد فعلت ذلك لأذكر أولئك الناس بأن البصري كان يغدق عليهم يوميا كلما جاء للعب الكولف.. أعطاهم المال والمنازل.. وطلبت من البصري ألا يتحدث نهائيا إلى الصحافة. وعليه أن يقبل واقع الجيل الجديد وأن يقتنع بأن وقت رحيله عن السلطة قد جاء. وأخطأ البصري لأنه لم يعمل بنصيحتي، وأقول هنا إن البصري خلق لنفسه المشاكل ولم يكن يعرف خطورة الحديث إلى الصحافة في ذلك الوقت.

عندما رحل البصري إلى فرنسا، كان يتصل هناك بقريبي عمر بروكسي، وكان آخر ما قاله له بخصوصي هو: «لحسن مسكين.. ماعندو زهر».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى