الحزب الرمادي
سيكون من الخطأ الجسيم الحكم على الحزب الحاكم فقط من زاوية ما يعلنه من احترام مخادع لقواعد اللعبة السياسية وشرعية مؤسسات الدولة، ما لم يتم النبش في جبل المستتر من أفكاره والخفي من طموحاته. فمن الأمور المسكوت عنها في استراتيجية حزب العدالة والتنمية، أن احترام المؤسسات ودولة القانون والمساواة أمامه والاحترام «المضطر» للنظام، وغيرها من الشعارات التي أجبرته عليها إكراهات المشاركة من داخل النسق السياسي، هي هراء يسوقه الحزب الحاكم للاستهلاك الإعلامي وتفادي الاحتكاك مع ضوابط وقيود المشاركة، وهي، في الوقت ذاته، مجرد نفاق سياسي وتقية إيديولوجية سرعان ما تكشف عن وجهها الحقيقي وسط المجالس الداخلية كما تسرب، صدفة أو بسبب تصفية حسابات، من حوار الحزب الداخلي، حينما اعتبر عبد العالي حامي الدين، المتهم بالمشاركة في قتل الطالب أيت الجيد، أن الملكية معيقة للديمقراطية والتنمية والإصلاح، وأنه آن الأوان لأن تجلس الملكية لطاولة المفاوضات مع الحزب الحاكم.
فليس هناك من شك لدى الجميع، بكون حزب العدالة والتنمية يحافظ على أفكاره التأسيسية في إقامة حلم الدولة الإسلامية، القائمة على تطبيق الشريعة وإقامة الحدود واستلهام النموذج التاريخي، لكنه يتحاشى حاليا إشهار أي سلوك يمكن أن يجعله في حالة تحد واصطدام مع مؤسسات الدولة القائمة.
لذلك، فهو يفضّل أن يضع نفسه في المناطق الرمادية التي تخفي أكثر مما تعلن. ففي مقابل الدفاع المستميت عن الشرعية الانتخابية التي تخدم موقعه السياسي ودولة القانون التي تحافظ على حقوقه القانونية، واحترام المؤسسات الذي يجعله في منأى عن سيف رقابتها، فإنه يسكت عن حقيقة إيمانه بكل تلك الشعارات عندما تمس مصالحه ورموزه. ويظهر حقيقته مثل ما حدث مع التجييش السياسي والإعلامي خلال محاكمة عبد العالي حامي الدين التي جسّدت سقوطاً مدوياً لشعارات وقيم يعلنها «البيجيدي» ولا يؤمن بها.
لقد نجح هذا الحزب الذي يقود بلدنا لسبع سنوات عجاف، في المزاوجة بين المعلن والمستتر. فمن جهة يقود حملة تشكيك في عمل المؤسسات، وفوق ذلك يشن عليها حربا بلا هوادة ويمارس عليها مختلف وسائل الضغط والابتزاز إذا اقتربت من دائرة مصالحه أو هددت أحد مريديه، ومن جهة أخرى، وبدون مركب نقص، يقود طيلة الأسبوع عمل المؤسسات الرسمية ويعلن طقوس الاحترام لها. وحينما يتنبه الرأي العام لهذه التقية السياسية وهذه الازدواجية المقيتة، يخرج رموز «البيجيدي» إلى الرأي العام مشتكين حسن نيتهم وما قوبلت به من سوء الفهم الكبير. وليس هذا وحسب، بل يظهر، كما فعل الرميد، دفاعا مستميتا عن استقلالية المؤسسات، بعدما نال منها في تدوينة «مراهقة»، بل ويظهرون كيف أن رموز الحزب يدافعون عن المؤسسات أكثر من دفاع الأم عن فلذات كبدها، في حين أنهم حينما يختلون إلى أنفسهم يجعلون من محاربتها هدفا لهم.
ومن المؤكد أن «البيجيدي» سيدفع ثمنا باهظا من شرعيته القانونية والسياسية إذا واصل لعبه على جميع الحبال للوصول إلى أهدافه المستترة، فخططه أصبحت ظاهرة للعيان وحيله لم تعد تنطلي على أحد، ودموع التماسيح التي يذرفها خلال كل عملية ضبط لن تنفعه. فالجميع، بمن فيهم السلطة، أصبحوا يدركون أنه لا مأمن مع هذا الحزب الذي قد يعلن في أية لحظة حربا طائشة على الجميع للدفاع عن أحلامه المسكوت عنها.