شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الحرية والضرورة

كل اعتقاد بأن الحرية تُقابِل الضرورة، أو هي تبدأ من حيث تنتهي الضرورة، ضرب من الوهم قد يكون ضحية وعي حدي تقاطبي يضع الأشياء في موضع التضاد، فلا يُدرِك ما قد يكون بينها من علائق وصلات حتى وإنْ كان مبناها على التناقض.

ليس فعل الحرية بالفعل المجرد من كل أحكام الضرورة، ولا الضرورة بمانعة إياه من أن يفصح عن وجوده في صور من الإفصاح مختلفة؛ إذ العلاقة بينهما تتسع لجوار متفاعل، بحيث لا يرتفع أي من الحدين، وإن كان للواحد منهما أن يطغى على الثاني في أحوال معلومة.

من البين، إذن، أن فهم هذه العلاقة من التفاعل بين الحرية والضرورة فهما صحيحا لا يستقيم إلا متى تبينا، ابتداء، معنى كل منهما، والمنطق الداخلي الذي يقوم عليه. هكذا يكون في وسع التعريف النظري أن يدلنا على ممكنات العلاقة بين الحدين، أو على ما قد يكون ممتنعا فيها أو خارجا عن حدود إمكانها.

الضرورة مفهوم يشار به إلى أوضاع خارجية (طبيعية، اجتماعية…) تفرض أحكامها، على نحو قهري، على الأشياء والأفعال. وهي، بهذا المعنى، موضوعية خارجة عن الإرادة، لكن فعل الضرورة – في المحيطين الطبيعي والإنساني – ليس من نوع الأفعال التي تقبل التجاهل، وبالتالي تقبل التحييد؛ فقد يكون التعامل معها مما لا مهرب منه؛ إما بإجابة تلك الضرورة مباشرة (من قبيل إجابة ضرورات البقاء من قوت أو غذاء أو أمن أو تناسل…)، أو بالتكيف مع أحكامها القهرية الذي فيه (أي التكيف) هو أيضا اعتراف بأن الضرورات أمر واقع ينبغي تكييف النفس معه. في وسعنا، إذن، أن نقول إن الضرورة نظام موضوعي يضع قواعد صارمة لمن يقع عليهم، وعلى هؤلاء أن يوفروا لأنفسهم شروط الاستجابة لتلك القواعد بما يضمن لهم البقاء. والقواعد هذه قد تكون من وضع الطبيعة وقوانينها، أو من وضع الدولة والمجتمع وقوانينهما.

على أن الضرورة إذا كانت تمنع مَن تقع عليهم أحكامها من أن يذهبوا إلى حد نقضها، بما هي نظام موضوعي قهري، فتفرض عليهم الخضوع لها خضوعا اضطراريا – إنْ هُم أبوْا ذلك الخضوع اختياريا – لا تمنعهم من التعبير عن إرادتهم في انتحال أنظمة وعلاقات وأساليب في الحياة لهم مستوحاة من البناء الذهني أو التخييلي لا من نظام الواقع؛ أي على نحو تبدو فيه تلك الإرادة كما لو أنها تصطنع لنفسها نظاما موازيا لنظام الضرورة؛ هي لا تمنع هذا الإمكان لأنه ينتمي إلى جملة ما ينطوي عليه نظام الضرورة. وهذا ما يأخذنا إلى مفهوم الحرية لاتصاله بمسألة الإمكان هذه.

نظريا، تقع الحرية خارج الضرورة ما دامت تمثل فعلا نابعا من الذات، ومن إرادتها في أن تنتج لنفسها حالة أو وضعية مُرضِية. هنا تبدو الحرية وكأنها تحقق ما لا توفرهُ الضرورة وبالتالي يوحي فعلها وكأنه يبدأ من حيث تنتهي أحكام الضرورة. هذا في نطاق المعنى العام للحرية، أما إن أخذناها في مفهومها السياسي فيُوضَع معناها في الموقع المقابل، تماما، للضرورة، أي بوصفها إمكانا لا يتحقق له وجود إلا إن استقل عن ضغوط الضرورة استقلالا كاملا. هكذا كان معنى الحرية في أصولها الفلسفية اليونانية، وهكذا فهِمَها الإغريق حين كانت أنظمتهم السياسية تميز بين من هم مواطنون – متحررون من إكراهات الضرورة (= أحرار) – ومن هم ليسوا في حكم المواطنين، لأنهم ما برحوا يرزحون تحت وطأة إكراهات الضرورة مثل العبيد والنساء… إلخ. وهذا هو المعنى عينه الذي كان للحرية في أنظمة الدولة الرومانية…؛ ولعله، أيضا، الذي ساد في الفكر والسياسة إلى ما قبل قرنين من اليوم…

غير أن الحرية لا تملك، عمليا، أي وجود خارج الضرورة بإطلاق، وكل اعتقاد بذلك ضرب من الوهم ليس إلا. نعم، قد يكون نظام الحرية مختلفا عن نظام الضرورة في كونه ذاتيا وإراديا؛ وقد يقيم لنفسه عالما موازيا لعالم الضرورات؛ وقد يتحرك فعل الحرية نفسه بوصفه فعلا من أفعال الضرورة، أو من الأفعال التي تحمل عليها الضرورة…، لكنها – في الأحوال جميعها – لا تملك أن تتحقق، جزئيا أو «كليا»، خارج نظام الضرورة، أو أن يتوقف وجودها على تغيير نظام الضرورة كلية. قد تُذَلِّل الحرية أحكام الضرورة أو تُكَيفُها أو، حتى، تحتويها لكنها لا تُلغي الضرورة كنظام، وإنما هي تتحرك داخل نظام الضرورة تلك. لذلك، إذا كانت الضرورة تسمح للحرية – كفعل مستقل نسبيا – أن تتحقق داخل نظامها هي كضرورة، فإن الحرية التي قد تتسع مساحة وجودها، داخل نظام الضرورة، تَنْحَدُّ – حكما – بأحكام الضرورة. هذا هو السبب في أن الحرية كانت، دائما، نسبية.

عبد الإله بلقزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى