شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الحروب وحدها لا تكفي

 

عبد الإله بلقزيز

 

ليس من إمكان لرؤية عالم خال من الحروب وأسبابها، رافل في السلم والتعايش والتعاون والتضامن وتوازن المصالح وتقاسم الخيرات… إلخ. حَلَمَتِ البشرية بمثل هذه القيم شريعة للحياة بين أمم الأرض منذ غابر الأزمان.

دعت إلى ذلك تعاليم الأديان وحضت عليه؛ وبشرت به الفلسفات الإنسانوية واليوتوپيات ونَظّرتْ له، ثم ما لبثت منظومات الحقوق (حقوق الأمم وحقوق الإنسان) أن وضعت لمثل تلك الحال المأمولة أنظمة من القوانين والتشريعات الخاصة، خاصة بعد أن استتب في العالم «نظام دولي» غِبّ نهاية الحرب العالمية الثانية… إلخ. غير أن هذه الغاية المثالية العليا ظلت، على الدوام، تصطدم بما يُبْطِل إمكانَها المادي؛ فكانت الحروب تتناسل من بعضها، مثل الفطريات، والعلاقات بين الأمم أو بين الدول تتدهور إلى حيث يقع الصدام بينها على مصالح وحقوق لا تقبل التسويات.

هكذا وجدت البشرية نفسها عاجزة عن كف هذا المنزِع فيها إلى الاحتراب والإفناء المتبادل، وما كان أمامها غير السعي إلى الحد من رقعة الحروب، وإلى شرعنة ما هو «مشروع» فيها وما ليس مشروعا، أو المنع القانوني لاستخدام أسلحة بعينها أشد إبادة (مثل أسلحة الدمار الشامل)، أو التشريع لحقوق المدنيين وسلامتهم أثناء الحرب، أو الاكتفاء بمجرد الدعوة إلى عدم اللجوء إلى الحرب، وإلى فض المنازعات بالطرق السلمية… موكلة إلى «مجلس الأمن» الدولي مهمة إقرار الأمن والسلام في العالم، ولكن من غير أن تمنعه – في الوقت عينه – من أن يعلن الحرب على دولة ما باسم «الشرعية الدولية» وميثاق الأمم المتحدة (الفصل السابع منه على وجه التحديد)، على مثال ما حصل من حرب ضد كل من العراق وأفغانستان اللتين لم تهددا نظام الأمن الدولي!

لا يتعلق امتناع هذا الإمكان بما لدى الناس – أفرادا وشعوبا وأمما – من منازعَ عدوانية (ذات أصول حيوانية في الطبيعة البشرية) تدعوهم إلى مغالبة بعضهم بعضا وانتزاع ما لدى الواحد منهم مما يُغري بانتزاعه: أكان المنتزِعُ شخصا مفردا أو دولة (أرض، مصادر مياه، مصادر طاقة، ساحل…)، بل مَـأْتَـاهُ، أيضا، من أن مبنى السياسات على المصالح، وأن الحرب سياسة من السياسات التي يُلْجَأ إليها، ثم أن المصالح متناقضة أحيانا- إنْ لم يكن في المعظم من الأحيان – وبالتالي، فإن بلوغ اصطدام تلك المصالح حدا قصيا آخذ أصحابه (= الدول في حالتنا) إلى مواجهات عسكرية تتوسل أدوات العنف المادي قصد تحطيم العدو، أو قهره، أو حمله على التنازل الاضطراري عما يحارِب من أجله: أكان ذلك مما هو في حكم حقوقه أو في حكم حقوق خصمه الذي يواجهه.

على أنه إذا كان مما يُلْجِئ دولة إلى الحرب عجزها عن تحصيل أهدافها بالطرق السلمية، أو اضطرارها إلى خوض حرب فرضتها عليها دولة أخرى، فإن منطق الحرب واحد عند من يبادرون إلى خوضها: قهر العدو وإخضاعه بالقوة العارية. وقد يكون منطقها عند من يتعرضون لها، مكرهين لا مختارين، مختلفا؛ كأن يكون، مثلا، الدفاع المشروع عن النفس الذي يملكه المعتدى عليه ضد المعتدي (وهو عينه الذي يلحظه القانون الدولي ويقره)، أو إفشال أهداف العدو ومنعه من تحقيقها وإحداث كسر ما، بذلك، في إرادته. غير أن القهر والإخضاع هدفان نسبيان ومؤقتان، على ما أثبتت تجارب الحروب؛ فلقد ينهزم جيش دولة أو ينكسر أمام جيش أقوى – مثلما حصل في العراق وأفغانستان – لكن ذلك ليس يكفي الدولة المنتصرة أو تحالفها الدولي لتحقيق أي من أهدافه؛ مثلما أن انتصارها قد لا يكون نهائيا ولا يستتبعه إخضاع كامل إنْ نشأت في مواجهة المنتصِر المحتل مقاومة شعبية تهز اطمئنانه النفسي لانتصاره، وترهقه عسكريا وأمنيا، وتـكبده خسائر في الأرواح. وما أكثر حروب العالم المعاصر التي انتهت إلى هذه الحال من الاستنزاف العسكري والبشري والنفسي بين جيش محتل وقوى شعبية مسلحة، ومن العسر الشديد في تحقيق هدف الإخضاع الكامل. بل كان ذلك، أحيانا، مدعاة إلى الانكفاء العسكري الاضطراري من قِبَل المنتصر للتقليل من كلفة خساراته.

لهذه الأسباب، ما عادت الحروب العسكرية تكفي، لوحدها، دولة ما من الدول لفرض إرادتها وتحقيق هدف الإخضاع الكامل لأعدائها وخصومها، مهما عظمت قوة تلك الدولة، وأيا تكن معدلات حشد قواها وأسلحتها في الحروب التي تخوضها. هذا ما يفسر لماذا تلجأ دول كبرى ذات قـوى ضاربة إلى توسل حروب أخرى غير عسكرية، أو حروب «ناعمة» كما يقال (ضحكا على الذقـون!)، من قبيل الحروب الاقتصادية والتجارية، وسلاح العقوبات والحصار والتجويع، وهندسة الحروب الأهلية الداخلية وتغذية قواها من خلف ستار…، فقد تكون البُغْيةُ من وراء هذه الحروب (وهي كسر الإرادة والإخضاع) ممكنة إمكانَها في حالة الحروب… أو ربما أكثر مع كلفة أقـل.

نافذة:

ما عادت الحروب العسكرية تكفي لوحدها دولة ما من الدول لفرض إرادتها وتحقيق هدف الإخضاع الكامل لأعدائها وخصومها مهما عظمت قوة تلك الدولة وأيا تكن معدلات حشد قواها وأسلحتها في الحروب التي تخوضها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى