نصر محمد عارف
قديما قالوا: لا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل. واليوم لا يحتاج الإنسان إلى دليل ليقول إن محور تفاعلات العالم السلمية والحربية هو الاقتصاد، وإن الهدف الأسمى للدول والمؤسسات والأفراد هو الاقتصاد، إما لمعالجة أزمة اقتصادية، أو لتحقيق حظوة مالية.
هذه الحقيقة الواضحة للعيان أعادت تشكيل صورة العالم الذي نعيش فيه، وأعادت ترتيب أوزان الدول والمجتمعات، ومن ثم أعادت خلق الحروب والصراعات.
وبناء على ذلك يجدر بالباحث السياسي الجاد أن يفتش عن الاقتصاد خلف كل الحروب والصراعات التي ينشغل بدراستها وتحليلها؛ فكل صراع خلفه أبعاد اقتصادية هي التي تشعله أو تحركه أو تغذيه. ومن ثم فإن الكشف عن الأساس الاقتصادي للصراعات السياسية والحروب سيجعل فهمها أيسر، وتفسيرها أقرب إلى الحقيقة.
وهنا لا بد أن نؤكد أن الحضور الاقتصادي القوي في الصراعات والحروب – سواء كسبب للحرب، أو هدف لها لتنشيط اقتصاديات الحرب – قد ساهم في إعادة صياغة طبيعة تلك الحروب، وأعاد تحديد طبيعتها وأبعادها، بحيث صارت أولا: حروبا محدودة في نطاق ضيق، ولم تعد حروبا كبرى أو شاملة، كما كان في الحربين العالميتين أو الحرب الكورية، أو حرب فيتنام، أو حتى حرب أكتوبر 1973؛ لأن الهدف منها محدد وحسابات الكسب والخسارة مدروسة بدقة؛ وثانيا: صارت حروب طويلة وتستغرق أزمانا أطول، وتتحول إلى صراع اجتماعي ممتد، قابل للتفجير في أي لحظة، حتى تستمر اقتصاديات الحرب في العمل والإنتاج. وثالثا: أنها أصبحت تركز على البنية التحتية وتدور في المدن والمناطق المعمورة، ولم تعد تقتصر على ساحات القتال البعيدة عن السكان، لأنه دائما مع كل حرب ترتفع شعارات «إعادة الإعمار»، وكأن الهدف هو اقتصاديات إعادة الإعمار.
وهنا لا بد من التمييز بين الحروب الاقتصادية من جانب، واقتصاديات الحروب من جانب آخر؛ فالحروب الاقتصادية هي التي يكون سبب اشتعالها الصراع على موارد اقتصادية، أو مصالح اقتصادية يتنافس عليها أطراف يفشلون في الوصول إلى صيغة لاقتسامها بالطرق السلمية؛ فيسعى أحدهما، أو كلاهما إلى الاستحواذ عليها بالوسائل العسكرية؛ وذلك عندما يكون الطرفان متكافئين. أما في حالة الحروب التي تشعلها القوى الكبرى الاستعمارية السابقة، أو الوارثون من المستعمرين الجدد؛ فعادة يتم تحريك وكلاء محليين لإشعال الحرب للسماح للقوى الاستعمارية السابقة، أو الحالية بأن تنهب الثروات بصورة هادئة؛ بينما يتصارع المخدوعون من الأطراف المحلية على أهداف؛ قد لا يكون لها علاقة على الإطلاق بالاقتصاد أو بالثروات موضع الحرب.
وقد تكرر هذا المشهد في العديد من الدول في العالم الثالث عامة، والعالم العربي خاصة؛ بأن تشتعل حرب بين دول، أو داخل دول على أسباب قد لا تستحق الحرب، لأن «الماريونيت Marionette» الذي يحرك مسرح العرائس أراد لهذه العرائس الخشبية أن تتقاتل، لتفتح له الباب للدخول وتحقيق أهدافه في الاستيلاء والنهب والسرقة.
أما اقتصاديات الحروب فقد تكون أخطر من الحروب الاقتصادية، لأنه يكون هدفها الحرب ذاتها، وليس ما بعدها، أو ما يمكن أن يحدث أثناءها من استيلاء ونهب للموارد والثروات، فاقتصاديات الحروب غايتها استمرار الحرب واشتعالها، حتى يتم تزويد الأطراف المتحاربة بالسلاح والذخيرة، وحتى يتم استغلال الآثار التي تخلقها الحروب في ندرة السلع، وارتفاع الأسعار، وتعطل سلاسل التوريد…
وإذا كانت الدول هي الفاعل الرئيس في الحروب الاقتصادية، خصوصا الدول الكبرى، أو الدول الإقليمية الأقوى، فإن اقتصاديات الحروب يتعدد ويتنوع الفاعلون فيها، والمستفيدون منها. ابتداء من المركبات الصناعية العسكرية في الدول المصنعة والمصدرة للأسلحة، إلى الشركات الاقتصادية العابرة للقارات، إلى المنظمات غير الحكومية الدولية التي تستفيد من الحروب في الحصول على تبرعات ضخمة، إلى التجار المحليين، ورجال الأعمال الذين ينتمون إلى الأطراف المتحاربة، كل هؤلاء يستفيدون غاية الاستفادة من اقتصاديات الحروب إلى الحد أنهم قد يسعون إلى إطالتها، ويستثمرون في استمرارها.
وإذا نظرنا في المحيط الجغرافي الذي تعيش فيه؛ والذي تعددت فيه الحروب وتوسعت، وأصبحت حدثا شبه عادي، لا يثير الكثير من الدهشة والتوقف، بل صار اشتعالها هو الاحتمال الأقرب عند ظهور أي خلاف بين دولتين، أو داخل أي دولة، وذلك لكثرة وتعدد هذه الحروب التي لم يكن هناك سبب منطقي يبررها من الأسباب التي اعتادت البشرية عليها. بل صارت الحروب تشتعل لأسباب قد تكون غير مفهومة في العديد من الحالات، لأنه كانت هناك وسائل عديدة لتحقيق الأهداف، وتصفية الخلافات غير الحرب، وما تجره من ويلات ودمار.
لكن البحث عن الأهداف الاقتصادية – وخاصة للقوى الدولية التي شاركت في إشعال الحروب بصورة ظاهرة أو خفية – في كل تلك الحروب التي عانت منها الدول العربية في الأربعين سنة الماضية قد يسهم في تفسيرها، ويقدم صورة واضحة لما حدث، ولماذا حدث، ومن المستفيد مما حدث. كذلك فإن فهم ما يدور في العالم من حولنا يحتاج أن نستحضر اقتصاديات الحرب كما في حالة أوكرانيا، والحروب الاقتصادية القادمة في مختلف مناطق إفريقيا، سواء كانت حروبا صغيرة تشعلها «بوكو حرام» أو «داعش» أو «القاعدة» أو غيرها.
نافذة:
اقتصاديات الحروب فقد تكون أخطر من الحروب الاقتصادية لأنه يكون هدفها الحرب ذاتها وليس ما بعدها أو ما يمكن أن يحدث أثناءها