الحرب العالمية الأولى
بقلم: خالص جلبي
أكتب في مونتريال (كندا)، يوم الخميس الموافق 11 نونبر من عام 2021م. الخريف يزحف باردا، أوراق الشجر تتساقط، الأشجار تخلع ملابسها وتتعرى، استعدادا لاستقبال الزائر الأبيض في عرس خاص! كانت درجة الحرارة في الصباح صفرا. رأيت الناس يتوافدون باتجاه كنيسة في منطقة «بيكنس فيلد BACONSFIELD»، صهري كان في إجازة. سألت ابنتي أروى وأنا أتناول الإفطار عندها: ما المناسبة؟ قالت: إنه يوم التذكر «Remembering,s day»! قلت: وماذا يتذكرون؟ قالت: هذا اليوم فيه انتهت الحرب العالمية الأولى. وهكذا على الساعة 11 صباحا في يوم 11 من الشهر 11 نونبر من العام 1918، توقفت ماكينة القتل وأغلقت بوابات الموت حتى إشعار آخر. جاء في صفحة ويكيبيديا عنها التالي:
الحرب العالمية الأولى، عرفت حينئذ بالحرب العظمى، هي حرب عالمية نشبت بداية في أوروبا من 28 يوليوز 1914 وانتهت في 11 نونبر 1918، وُصِفتْ وقت حدوثها بـ«الحرب التي ستنهي كل الحروب». جُمِعَ لها أكثر من سبعين مليون فرد عسكري، 60 مليونا منهم أوروبيون، للمشاركة في واحدة من أكبر الحروب في التاريخ. لقي أكثر من تسعة ملايين مقاتل وسبعة ملايين مدني مصرعهم نتيجة الحرب، وتعتبر أيضا عاملا مساهما في عدد من جرائم الإبادة الجماعية والإنفلونزا الإسبانية 1918، والتي تسببت في ما بين 50 و100 مليون حالة وفاة في جميع أنحاء العالم. تفاقم معدل الخسائر العسكرية بسبب التطور التقني والصناعي للمتحاربين، والركود التكتيكي الناجم عن حرب الخنادق القاسية. تعد هذه الحرب أحد أعنف الصراعات في التاريخ، وتسببت في التمهيد لتغييرات سياسية كبيرة تضمنت ثورات 1917- 1923، في العديد من الدول المشتركة. ساهمت الصراعات غير المحلولة في نهاية النزاع، في بداية الحرب العالمية الثانية، بعد عشرين سنة.
ولكن لماذا اندلعت الحروب، وشبت النزاعات الدموية، وانفجرت الحروب الأهلية وما زالت؟ بل لماذا تحدث النزاعات المسلحة أصلا، ليس فقط بين الدول، بل حتى على مستوى الأفراد؟ حقا إنه سر عجيب، ولغز غامض، يستحق التنقيب عن منابعه، والكشف عن جذوره، لأنه أفظع من وباء الكوليرا والحمى الصفراء والجذام والجمرة الخبيثة مجتمعة! فالحرب أودت بحياة زهرة شباب المجتمع، وما زالت! ومن الغريب أنها لا تعتبر حتى الآن مرضا رهيبا وجنونا وإفلاسا أخلاقيا، وارتكابا لجرائم حمقاء، بل «بطولة» خارقة، وسياسة متقنة! لقد حان الوقت لوضع هذه الظاهرة المكربة تحت عدسة مجهر الدراسة النفسية الاجتماعية، من أجل بناء ثقافة «سلمية» وتوديع ثقافة «البطولة»، بعد أن أدرك العالم أن طريق القوة مسدود، وأن الحرب عبثية وانتحار.
ما زلت أتذكرني في خريف عام 1993 م وأنا في زيارة إلى العاصمة الكندية، «أوتاوا»، وفي رحلة التعرف على البرلمان الكندي والكومنولث البريطاني والمكتبة الرائعة التابعة للكومنولث، والتي تحتوي على 600 ألف كتاب من ذخائر المعرفة الإنسانية، ثم المجلس الذي تدار فيه مناقشات الأحزاب، وحيث يهيئ وفي مكان مرتفع منه للراغبين من الجمهور في حضور هذه المناقشات الساخنة، وفي نهاية الرحلة وقفت السيدة التي كانت تقوم بدور المرشد السياحي أمام لوحة تذكارية، لتقول بخشوع: هذه اللوحة هي ذكرى للخسائر التي مُنيت بها كندا في الحرب العالمية الأولى، حيث اشتركت الوحدات الكندية في ساحات القتال الأوروبية، مع مجموعات دول الكومنولث من أستراليا والهند ونيوزيلندا، وبالطبع بريطانيا، حيث سيق 600 ألف جندي كندي يمثلون زهرة شباب المجتمع الكندي وعُشر مجموع الأمة الكندية في ذلك الوقت، وقتل منهم أيضا العُشر «قُتل 60 ألفا».
وقفت أتأمل اللوحة التذكارية والشعر الحزين المسطر عليها، تساعدني ابنتي التي كانت تدرس في جامعة «مكجيل» في فك معاني بعض الكلمات، ذلك أن الأسطر كتبت بلغة فخمة: «عندما ترسل الشمس أشعتها الدافئة، وتمتلىء حقول الربيع بورود الزنبق والياسمين، وتشعر بالسلام يظلل الوطن الذي تعيش فيه، فلا تنسى البؤساء في حشرجة الموت، تنزف جراحاتهم في ساحات القتال». وتمنيت أن تختم الأبيات بالاستفادة من هذا الدرس المريع، كي لا يتكرر الخطأ، بكل أسف خُتمت الأبيات بـ«ثقافة البطولة» مرة أخرى: «لا تنسى دماء القتلى وآهات الجرحى وعذاب المشوهين، من أجل الثأر لهم والانتقام لتضحيتهم!»، ولم يختموها بجملة: «كفى بالحرب واعظا!». في الختام قلت لمرشدتنا الكندية: إنني جدا متألم لما ذكرت، وأرجو أن لا تتكرر هذه المأساة بتقديم المزيد من القرابين البشرية على مذبح الحروب البئيسة، فهزت رأسها متأثرة بالإيجاب.
في يوم 28 يونيو من عام 1914م، اختبأ شاب «صربي» عمره 19 عاما فقط، في أحد أزقة مدينة «سراييفو»، هو «جافريلو برنسيب GAVRILO PRINCIP»، وبيده مسدس محشو بما يكفي من الطلقات، قد أكل الحقد قلبه، يصر على أسنانه، ويشد من قبضته على الغدارة التي في يده، وهو ينتظر قدوم ضيوف هامين إلى مدينته، لتصفية الحساب معهم!
الحرب العالمية الأولى (2- 4)
بقلم: خالص جلبي
في هذه الأثناء كان ولي عهد إمبراطورية (النمسا وهنغاريا)، الأرشيدوق «فرانتس فيرديناند FRANTZ FERDINAND»، يركب عربة مكشوفة، وقد اصطحب زوجته الكونتيسة «صوفي شوتيك SOPHIE CHOTEK» التي محضها حبه وإخلاصه، يحاول أن يُدخلَ على قلبها شيئا من البهجة، بمناسبة مرور 14 عاما على زواجهما، فهي من عائلة عادية، وهو من عائلة الدم الملكي «آل هابسبورغ» العريقة، فلا يُسمح لها بالظهور في الاحتفالات النمساوية العريقة في البلاط الملكي، وكان من سوء الطالع «لا ندري» أن الحب جمع بينهما ليتزوجا في 28 يونيو من عام 1900 ميلادي، وليفارقا الحياة في هذه المناسبة نفسها، بعد أربعة عشر عاما! فأراد أن يمضي معها وقتا للاستجمام والراحة بعيدا عن فيينا، في هدوء مدينة «سراييفو»، عاصمة البوسنة، التي كانت قد ضمت إلى الإمبراطورية النمساوية عام 1908م.
أثناء اختراق الشارع الرئيسي في مدينة «سراييفو» تنقل لنا أسرار التاريخ أن منظمة سرية صربية إرهابية، تدعى منظمة «الكف الأسود» كانت على موعد مع القدر في تلك الأيام، فقد جند رئيس تلك الجمعية، وكان رجلا غامضا اسمه «آبيس APIS»، مجموعة من الشباب المتحمسين لاغتيال الضيف المهم القادم للاستجمام في المدينة مع زوجته!
كانت مجموعة الاغتيال الرئيسية مكونة من ثلاثة أشخاص، وهم غير صاحبنا «جافريلو» الذي كان يتربص في مكان آخر، فأما الأول فأشفق على الكونتيسة فتراجع عن قتلها، وأما الثاني فمد يده إلى المسدس، إلا أنه ارتجف وخانته شجاعته، وأما الثالث فتحامل على نفسه وطوح بالقنبلة اليدوية، بعد مرور الموكب، فأخطأت هدفها. وبذلك نجا ولي العهد النمساوي وقرينته المحبوبة، وتنفس التاريخ الصعداء. ولكن هذه الاستراحة التاريخية لم تدم أكثر من ساعة، فالحريق الشيطاني الذي سيغلف الكرة الأرضية ما زال على موعد مع رصاصات «جافريلو برنسيب» الذي لم يدرك ماذا فعل، وما هي النتائج المروعة والرهيبة التي ستتلو هذه الرصاصات الغادرة، وطوفان الدماء الذي سيغرق جنبات المعمورة. كان «جافريلو» تحت ضباب الحقد لا يرى سوى شيء واحد: أن يسفك الدم النمساوي، ولم يعلم أن «الصرب» سوف تُسفك دماؤهم أيضا، وأن الدم يقود إلى الدم، والحقد يثير الحقد، والكراهية تولد الكراهية، والدمار ينتج الدمار المتبادل، فهي عملة متبادلة، وردود فعل كونية رُكبت النفوس عليها، وأن الذي يدفع بالتي هي أحسن يولد التي هي أحسن، وأن هذه الطريقة تجعل (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
غضب الأرشيدوق من حادثة الاعتداء هذه، وألغى برنامج زيارته، وأمر الحوذي بسلوك طريق مخالف، في أحد أزقة المدينة، إلا أنه هذه المرة لم يفلت؛ حيث عاجلته وزوجته الرصاصات محكمة التسديد من يد جافريلو، فرقد الزوجان متكئين إلى بعضهما غارقين في الدم، فاقدين الحياة والأنفاس. وحتى الآن لم نفهم كيف سيفقد ملايين الجنود حياتهم في ساحات الوغى، بعد طلقات سراييفو، وتندلع أفظع حرب عرفها الجنس البشري حتى ذلك الوقت؟ وهي التي عرفت بالحرب العظمى أو الحرب العالمية الأولى، أو ما روته لنا جداتنا ونحن صغار نسمع مشدوهين فاغري الأفواه للمجاعة والفقر والتشرد والمذابح الجماعية، وكيف طرد «العصملية» الإنجليز من «جناقلعة وغاليبولي»، وهو ما عرف واشتهر بحرب «السَفَر برلك».
مع هذا تبقى هذه القصة غير ذات معنى، ولا تفسر تماما الكارثة الكونية المروعة التي حدثت بعد ذلك، لذا كان لابد من أجل فهم أدق وأعمق، أن يُنظر إلى هذه الحادثة من خلال الاقتراب إلى جو الحدث، فنحن بعقليتنا الحالية يصعب أن نفهم سببية الحدث وعلاقته بنتائجه الكارثية، لابد إذن من محاولة فهم، بل وتفكيك الحدث التاريخي لمعرفة محتوياته، لابد من معرفة «الجيوبوليتيك»، أي الوضع الجغرافي السياسي، لابد من معرفة الوضع النفسي الاجتماعي التاريخي، بل والتطور التكنولوجي وماكينة الحرب لفهم عملية «الذبح البشري الكبرى»، التي تمت في مدى أربع سنوات ونيف!
لعل أقرب تفسير لهذا الحريق هو نظرية عود الثقاب أو العمل الذي تجاوز نية صاحبه، بمعنى أن إلقاء عود ثقاب على برميل ماء لا يؤدي إلى أي حريق، خلافا لرميه فوق برميل بارود، كما أن ضرب رجل بكف لا يؤدي إلى موته، لولا أن صاحبه قريب من الموت بأقل من ضربة الكف. وهذا ما قاله المثل العربي القديم: «القشة التي قصمت ظهر البعير»، وإلا فإن آلاف القشات لا تفعل شيئا للقط فكيف بالبعير! هذا الجو في أوروبا بشكل أو آخر هو الذي فجر برميل البارود في العالم، مع أن أوروبا عاشت لفترة نصف قرن في سلام ممتع، ومعها العالم حتى جاءت هذه النكبة الجائحة.
لعل الفيلسوف والمؤرخ الألماني «أوسفالد شبينغلر» انتبه بشكل دقيق إلى جو القرن من خلال البانوراما التاريخية، فكتب يقول: «لقد اقترحت على نفسي أن أضع دراسة واسعة عن الظاهرة السياسية آنذاك، وعن تطوراتها المحتملة، ويومذاك كانت الحرب العالمية تبدو لي أنها وشيكة الوقوع، ومظاهرة خارجية محتومة للأزمة التاريخية التي كانت تجتاحنا حينذاك». وما هي الأزمة التاريخية، حسب شبينغلر يا ترى؟ إنه يحددها: «إنني أقرر هنا أن الاستعمار الذي كان الأساس الذي ارتكزت عليه الإمبراطوريات بين مصرية ورومانية وصينية وهندية، وقامت على أشلاء الضحايا وإذلال الجماهير، أقول إن الاستعمار هو الرمز المميز لاحتضار المدنية الغربية وموتها، وفي هذا الشكل الظاهري – الاستعمار – قد بت الآن بمصير الغرب بتا لا عودة عنه ولا تعديل».
الحرب العالمية الأولى (3- 4)
بقلم: خالص جلبي
يطلق الفيلسوف والمؤرخ الألماني «أوسفالد شبينغلر» حكما قاسيا على كل تركيبة الحضارة الغربية: «إن كل حضارة تمر بمراحل العمر ذاتها التي يمر بها الفرد الإنسان، فلكل حضارة طفولتها وشبابها ورجولتها وشيخوختها… إن هذا الاكتمال الباطني والظاهري، الخاتمة التي تنتظر كل حضارة حية، هو مغزى جميع الانحطاطات التاريخية، بما فيه الانحطاط الكلاسيكي الذي نعرفه معرفة تامة، وبما فيه انحطاط آخر يشابه الانحطاط الكلاسيكي في مجراه وديمومته، هذا الانحطاط الذي سيشغل القرون الأولى من الدورة الألفية القادمة من الأعوام، والذي نرى الآن طلائعه ونحس به من حولنا، وأعني به انحطاط الغرب».
وبالطبع فنحن في مقالتنا هذه لا نريد الغوص في التفصيلات السياسية، كل ما نريده صياغة «بانوراما» عامة لهذا الحدث، الذي يجب استحضاره أمام القارئ العربي، بعد أن أصبح معظم العالم العربي في ما يشبه الحرب الأهلية القائمة أو المبطنة، ولا يظن الآخرون أنهم بمنجاة من هذه الجائحة، لأن البلاسما الثقافية التي يسبح فيها الإنسان العربي واحدة، وما حدث في أفغانستان أو اليمن وسوريا أو لبنان سابقا، قابل أن يتكرر في صور أخرى في أماكن أخرى بشدة تزيد أو تنقص، ويجب أن نستوعب قضية على غاية من الأهمية من أجل التخلص من ثقافة «البطولة والسيف» في سبيل بناء الثقافة «السلمية»، أن هذا المرض هو ليس مرض فريق بعينه أو اتجاه دون آخر، بل هو مرض عام، وثقافة مشتركة، ومصيبة طامة، وبلازما ثقافية يسبح فيها جميع أطراف النزاع، بل وحتى من لم يشترك في النزاع، لأنها ثقافة «إلغاء الآخر» وعدم الاعتراف به، فضلا عن «إيجاده»
بين 28 يونيو من عام 1914 م ومطلع غشت تسارعت الأحداث بشكل لا يصدق، ففي 28 يوليوز وجهت النمسا إنذارا نهائيا للصرب، على أساس أنها خلف حادث الاعتداء والمنظمة الإرهابية «الكف الأسود» من عشر نقاط وافقت على سبع منها، فلم يعجب النمسا ذلك، ولم ترض بأقل ما يشبه الاستسلام الكامل. فقامت روسيا بإعلان التعبئة العامة في محاولة لحماية صربيا، فوجهت ألمانيا إنذارا إلى روسيا لإلغاء التعبئة العامة في مدى 12 ساعة! فرفضت روسيا. وفي اليوم الأول من شهر غشت التهبت الكرة الأرضية، وكان البريطانيون يتوقعون أنها قد تدوم 12 يوما فقط، وبدأت الحرب تحصد أرواح الشباب في مفاجأة كبرى للساسة والجنرالات على حد سواء: «وانطلقت إلى الغرب أرتال من السيارات المحملة بالجنود، وتبعت ذلك طوابير هائلة من المشاة ذوي البذلات الرمادية، وكان معظمهم شبابا ألمانيين جميلي العيون، شقر الشعور، وهم أحداث متعلمون ممن يطيعون القانون ويحترمونه وممن لم يحدث أن رأوا من قبل رصاصة تطلق غضبا، لقد أخبروهم أن «هذه هي الحرب»، وأنهم يجب أن يكونوا شجعانا لا تجد الرحمة إلى قلوبهم سبيلا». «وفي ليلة 4 غشت وبينما أوروبا ما تبرح مستغرقة في بحبوحة نصف قرن من السلم، وما تبرح تستمتع الاستمتاع المعتاد بالحرية والرخص والوفرة الشاملة، التي لن يراها أي حي مرة أخرى وتفكر في إجازاتها الصيفية؛ كانت قرية «فيزيه» البلجيكية الصغيرة في أتون من النيران، ثم كان فلاحوها المشدوهون يؤخذون ويعدمون رميا بالرصاص، بدعوى أن أحد الناس أطلق النار على الغزاة، ومن المؤكد أن الضباط الذين أصدروا هذه الأوامر والجنود الذين نفذوها شعروا بالرعب لغرابة ما أتوا، إذ لم يسبق لمعظمهم أن شهد حتى ذلك اليوم ميتة عنيفة، وكانوا قد أضرموا النار لا في تلك القرية بمفردها، بل في العالم بأجمعه». وهكذا بدأت حرب «السفر برلك» الحرب العظمى، التي عرفت في ما بعد بالحرب العالمية الأولى، لأنه حينما بدأت لم تكن «حربا عالمية» وظنها الجميع أنها حرب قصيرة، فأعطاها الألمان ستة أسابيع، بل وابتهج الناس بقدومها فهتف الألمان: «إلى باريس»، ورقص الناس في شوارع باريس وهتفوا: «إلى برلين!»، الوحيد الذي جاءه حدس لافت للنظر هو الجنرال البريطاني «كيتشنر»، حيث توقع امتداد الحرب إلى عدة سنوات، وأما كلفة الحرب فتوقعها أشد المتشائمين في حدود مليار جنيه، «وكان الجنيه البريطاني وقتها شبيها بالدولار العالمي الذي يترنح اليوم»، فكانت ما يزيد على عشرة أضعاف ما ذكر، وتوقعها الجنرالات حروب «بطولة»، وكان الجنرالات البريطانيون «كيتشنر وجون فرانش وهايغ وروبرتسون» يتحرقون إلى بعض المناظر التي «تخلب الألباب» من مناظر حروب العصور الوسطى، حيث ينطلق الخيالة «لحصد الرؤوس»، بعد المدفعية واستيلاء المشاة على المواقع بالقتال القريب والطعن بـ«السونكي»، إلا أن المدافعين الألمان كانوا يحرمونهم هذه الرؤية «البهيجة» للرؤوس المتطايرة بحصد الخيالة بالرشاشات. كما توقع الفرنسيون وهم يفتلون شواربهم العريضة أن الهجوم هو أفضل الطرق لتخفيف الخسائر، فمات في معارك «الفردون» حوالي 695 ألفا من جنود الطرفين، من أجل الاستيلاء على قلعة قديمة لا قيمة لها من الناحية الاستراتيجية، باستثناء حرص ألمانيا على تمريغ أنف فرنسا في الرغام، فانصبت على القلعة في اليوم الأول مليونا قنبلة! في حين أن معارك السوم كلفت مليونا و265 ألف قتيل.
الحرب العالمية الأولى (4- 4)
بقلم: خالص جلبي
على هذه الطريقة وُصف عويل الفرق المرصوصة التي كانت تتقدم لاقتحام الخنادق، بعد أن تحولت الحرب إلى استحكامات ومكانك راوح! وحينذاك صدر أمر ضباط الألمان: «النار سريعا، ارم»، ومع ارم هذه سقط الصف الأول على طول الجبهة من المتقدمين، لقد حصدتهم المدفعية وصادهم الرماة، وارتفع صراخ من نفذ في صدورهم الرصاص، ومعه ارتفعت اللعنات تنصب على الألمان والإنجليز والدنيا والشيطان، كان الجرحى ينزفون دما وهم يجودون بأرواحهم، فلا لوم عليهم أن يلعنوا أيا كان. كانت معارك الحرب العظمى في واقعها «مسالخ بشرية»، وكان الهجوم يتلو الهجوم بدون أي اعتبار للخسائر الإنسانية، بل وإخفاء ما يحدث عن شعوبهم التي تقبع بالخلف وهي تمدهم بالقرابين البشرية: «يرى بعض المؤرخين أن «فردون» و«السوم» لم تكونا معركتين، بقدر ما كانتا فورة حيوانية دهت العقل البشري بكامله في تلك الأيام ……. كان الخندق الواحد يتبادله الجانبان وفي ساعات قليلة، فترتوي أرضه الكلسية المنخربة بدماء الجرحى والقتلى مرة واحدة؛ فإذا سقطت الجثث بجانب بعضها البعض اصطلحت وتوقف النزاع، فالموت كان سيد الصلح!».
أيها القارئ العزيز تذكر أن ملايين القتلى، ومئات الآلاف من الجرحى والمشوهين كانوا بشرا مثلي ومثلك، كانت خلفهم زوجات تنتظرهم على الشكل الذي أظهرته قصة الأوديسة في الزوجة الوفية «بينولوبي»، وهي تنتظر عودة زوجها من حرب طروادة عشرين عاما، هي وابنها «تيلماخ» الذي تركه والده صبيا في المهد قبل أن يذهب لنداء «البطولة». كان خلفهم أطفال يتلهفون لرؤية آبائهم، أما الآباء فكانوا يتلقون جثث أولادهم، إن بقيت هناك جثث مع الحرب الحديثة التي تترك جثثا متفحمة، أو أشلاء متناثرة. كان كل واحد من أولئك الذين يقاتلون في الخنادق وأحيانا الوحل والطين والماء إلى خصر أحدهم بشرا يحمل مشاعر وذكريات آمال وطموحات، وفي لحظة واحدة كما قال «فولتير» يتحول إلى العدم وبطلقة واحدة.
كانت الحرب العظمى نتيجة لحرب عام 1870 البروسية الفرنسية، كما كانت هي بدورها سببا لحرب أشد ترويعا وفتكا، ستلحقها بعد عشرين عاما. ومع بزوغ الشمس النووية وضع الإنسان يده على الوقود الكوني، ووصل إلى معادلة عجيبة للغاية، أوصله العلم إليها، حيث ألغت القوة القوة، وانسد الطريق الذي بقي مفتوحا، منذ بداية الحضارة الإنسانية. إن القرن العشرين قدم الدليل العلمي الواقعي لصحة موقف «ابن آدم الأول» من رفض العنف، إن القنبلة النووية لم تكن لصالح العنف، بل كانت لصالح عدم العنف ولصالح السلام، إنها نسخت العنف والحرب والسيف، نسخت العهد القديم، فلهذا لا يمكن لعالم الكبار أن يتقاتلوا، ويحدث هذا للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري. وسقوط الاتحاد السوفياتي وهو يملك من القدرة ما يقدر أن يدمر به الأرض، دليل على أن القوة لم تعد تجدي ولا تحمي من يملكها، وصعود اليابان وهي لا تملك القوة ولم تعد تريدها، دليل آخر على إمكان الصعود بدون قوة.
هذا هو عالم الكبار اليوم، فما هو حال عالم الصغار؟
إن الصغار إذا لجؤوا إلى القوة في حل مشكلاتهم، فإنهم يكونوا قد باعوا قضيتهم للمترفين في الأرض، لسماسرة الحروب، والأخيرون ينظرون فمن يكون انتصاره في مصلحتهم نصروه، وإلا فإنهم يتركونهم ينحر بعضهم بعضا، أو يمدونهم بالأسلحة التقليدية بتغافل وشماتة. وهذا الوضع العالمي بين الصغار والكبار وضع جديد، علينا أن نتفهمه ونتكيف معه بدون تبلد. وعلينا أن ننسخ الثقافة المبنية على العهد العتيق، عهد اعتبار العنف «بطولة»، ولنبدأ التكيف مع العهد الجديد في الأرض الجديدة، عهد السلام ولنبدأ بصنع «ثقافة السلام»، لأن صنع ثقافة السلام شرط لقيام العيش المشترك معا بسلام. وهذه الثقافة ـ التي ينبغي أن نصنعها ـ هي التي ستبدل الذهنية الجماعية التقليدية التي تنظر إلى العنف أنه بطولة وقداسة، بدلا من النظر إليه أنه أمر يدعو إلى الغثيان، وأنه كف عن كونه بطولة، بل تحول إلى جريمة، وما لم نحقق هذه النقلة الثقافية والقطيعة المعرفية فلن نكون قد صنعنا شيئا. فكما كانت الجراثيم القاتلة قبل كشفها ومعرفة كيفية التعقيم، كانت مبثوثة في أعيننا، وكانت تداهمنا من غير أن نعرف كيف تأتي وتحصد الناس، كذلك فإن الجراثيم الفكرية الثقافية المبثوثة في أغذيتنا الفكرية تأتي وتحصدنا، ثم نعيش حيارى مبلسين.
إنه لم يبق في العالم إلا مذهبان، من يؤمن بالعنف، ومن يرفضه ويتحداه بالسلام، وما هو أمام العرب اليوم أن يتمرنوا على حل مشاكلهم في ما بينهم سلميا، فإن نجحوا في ذلك فستحل المشكلات بينهم وغيرهم تلقائيا. ويظن كثير من الناس أن حل المشكلات عند السياسيين، والواقع أن السياسي هو حفيد المثقف، فهما ثمار الشجرة التي غرساها.
إن التاريخ يعلمنا أن سقراط تحدى العنف وقبل الموت، واعتبر العنف عارا، والموت ليس عارا، وأن من العار أن نرتكب العنف الذي هو العار، خوفا مما ليس بعار وهو الموت، وعندما تجرع السم بكت زوجته وقالت: إن ما يحزنني أنك تموت وأنت بريء، فقال لها: ويحك، وهل كان يرضيك أن أموت وأنا مدان!