بقلم خالص جلبي
مع كتابة هذه الأسطر تبدو حرب غزة في آخر فصولها مع كارثة كاملة من أعتى مرض إنساني. ومما نذكر عن الحرب ما ذكره الفيلسوف هرقليطس من أحداث جسام تركت بصماتها على تفكيره خاصة في ميدان الحرب فاعتبرها أبا الأحداث وأمها وآلامها؟ فقد شهد في عام 480 قبل الميلاد الزحف الأعظم على بلاد اليونان، التي انتهت بهزيمة منكرة في معركة سلاميس البحرية. والرجل هيرقليطس (Heraclitus) الذي عاش عام 500 قبل الميلاد، في آسيا الصغرى، تركيا الحالية، في مدينة سيرسا وربما إفسوس، ولعله رأى مرور الجيوش الفارسية في مدينته.
وأهم ما تركه الرجل من أفكار هي أن الكون يقوم على دورة طبيعية. وتحكمه قوتان: الحب والكفاح. وكل شيء ينشأ من هذا التنافس. وما نراه من تباين الأشياء، يرجع في النهاية إلى هذا الصراع الذي يوحد الأضداد في النهاية. وكان يرى أن الكون يقوم على صيرورة متدفقة؛ فلا يبقى شيء كما كان، حتى ولو وضع الإنسان قدمه في النهر مرتين، فلن يكون هذا النهر هو هو كما كان قبل لحظة. وهو محق من هذا الجانب، أن التدفق الكوني يقوم على تداخل المتغير والثابت. كما أن مبدأ التدافع أساسي في الوجود. وجاء ذكر هذا في القرآن مرتين: في سورتي البقرة والحج. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين. ولكن ليس معنى هذا أن تندلع الحروب، كما لا يعني التدافع القتل والقتال على نحو مطلق فوجب التنبيه!
وعلينا أن نتفهم ظروف الرجل وإحداثياته التاريخية التي تشكل الضمير مثل أبناء غزة الغارقين في الدم والوحل مع شتاء 2024م! وهكذا فقد عاش في زمن سيطرت عليه الحروب بدون توقف، وكان الفكر اليوناني في مأزق يومها لو اجتاح الفرس بلاد الإغريق. ويذهب البعض إلى أن نجاة بلاد اليونان من الاحتلال الفارسي مهد الطريق لنشوء عبقرية بلاد الإغريق، التي أينعت بأدمغة مثل سقراط وأرسطو وأفلاطون وزينون وبيثاغوراس وبارامينيدس وديموقريطس وايمبيدوكليس وبروتاغوراس؛ فلا يمكن لأي إبداع أن يأخذ طريقه وسط الإكراه. وهو سر إحباط العالم العربي اليوم ونهضة الغرب، ولكن لا نعترف! ومنه يقول هرقليطس إن الحرب تحدد مصائر الناس، أن يكون سادة أو عبيدا. وهو محق بهذا؛ فقد عاش الرجل في ظروف مرعبة من جدل التاريخ.
وفكرة الرجل جوهرية لفهم حركة التاريخ على ساقين، أنه يتحرك بدون توقف، وأنه يتحسن بدون توقف. ولقد عني القرآن بهذا الموضوع؛ فاعتبر أن الأصل في الدين أنه لا يقوم على الإكراه. وانتبه لهذا المؤرخ البريطاني توينبي فاعتبر أن الإسلام جاء بشيء عجيب للعالم، عندما سمح للمخالف بأن يبقى على قيد الحياة. ولم يكن هذا المبدأ من التسامح الفكري قائماً في العالم يومها.
لم يُفهم هيرقليطس من الناس جيداً، وكان حريصا على تعتيم عباراته، ربما لأنه كان من عائلة ارستقراطية؛ فترفع عن الناس العوام، واعتبرهم جهلة لا يستوعبون (اللوغوس)، أي العقل. وكان يكرر؛ ثلاث آفات تطفئ النار العقلية: النوم والغباء والرذيلة. مفسدات أي مفسدة! ومن المهم أن نستوعب أن الفكر الإنساني يتطور ولا يقف عند فيلسوف، والاكتشافات العقلية الرائعة التي وصلوا إليها في عالم اللوغوس لا تنتهي، وبعد النزاع الفظيع بين الروس والأمريكيين في سباق الفضاء طبقوا مبدأ هيرقليطس لتتحد الأضداد من جديد، وينطلقوا بمشروع عملاق مشترك لبناء محطة فضاء عالمية قامت عام 2006م.
لن تستطيع أن تطأ نفس النهر بقدمك مرتين! هذا ما ينص عليه قانون الصيرورة عند هرقليطس، وهذه أهم جملة نقلت عن هذا الفيلسوف غريب الأطوار الذي ذهب تلميذه كراتيلوس (Cratylus) بتوسيع الفكرة إلى القول: لن تستطيع أن تطأ بقدمك نفس النهر قط؟ ولعله أراد بذلك سرعة تدفق التغيرات!
ثلاث أفكار رئيسية تجمل فلسفة هذا الرجل، الحرب هي أم كل الأشياء. ولن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين. والكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم. وهناك صيرورة متدفقة في الكون. وكل يوم هو في شأن. وفي الغالب لم يفهم الرجل على نحو واضح، مع أن نظرته للعالم تتمتع بشيء كبير من القوة والتماسك، فحواسنا تضللنا كثيرا عن الحقيقة المختبئة. وهو ما يقوله القرآن بتعبير مختلف: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
ومن أقواله العجيبة أن الجبل في أي مكان نازل وطالع بنفس الوقت، حسب المكان الذي أنت فيه؟ فلنتأمل البعد الفلسفي؟ ومما قال إن النهر لن يبقى نهرا لو بقي كما هو بدون تغير؟ ولعلنا نحزر من أقوال هذا الفيلسوف أنه يريد دفعنا للتفكير دوما؟ وأن المعرفة مصدرها العقل وليس الحواس، إذا لما افترق البشر عن البقر فالكل عنده نفس الحواس!. إنه حومان حول الحقيقة ولكن رحلة العلم مازالت طويلة. وهي ما دفعت إيمانويل كانط أيضا إلى نظرته حول الأفكار القبلية. أي الموضوعة في عقولنا قبل أن نتعلم أي شيء، مثل برامج الكمبيوتر التي لم تشغل، وبواسطة هذه الأفكار البديهية تنمو عندنا المعرفة.
وحاول هرقليطس في النهاية أن يصل إلى أصل الأشياء؟ فإذا كان كل شيء يتغير فما هو الثابت؟ هي هل النار؟ فهل النار هي أصل كل شيء؟ أم هي أربعة كما ذهب إلى ذلك ايمبيدوكليس، أم أن أصل الأشياء هي الذرة الآتوم الجزء الذي لا يتجزأ، كما اقترب من الحقيقة قليلا (الذري) ديموقريطس، وكسرها أوتو هان الألماني بتجزؤ الذرة، وفجرها آينشتاين بالنسبية وعلاقة الطاقة بالمادة فخرج مردة الشر من جهنم بعد أن كانوا مسلسلين.