الحجاج وصندوق الرهان
قال ابن الجوزي رحمه الله «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر..». ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات هي أنها مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحة مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حكم وعبر ودروس في الدين والدنيا تجلب للنفس الأنس والمرح. وفي هذه المجموعة جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مشرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف.
أتى الحجاج بن يوسف الثقفي بصندوق مقفل كان قد غنمه من كسرى، فأمر بالقفل أن يكسر فكسر فإذا به صندوق آخر مغلق فقال الحجاج لمن في مجلسه: من يشتري مني هذا الصندوق بما فيه ولا أدري ما فيه؟ فتقدم عدد من الحاضرين في مزايدة على الصندوق الذي رسا على أحدهم بمبلغ خمسة آلاف دينار وتقدم المشتري ليفتح الصندوق ويسعد بما فيه، وإذا به رقعة مكتوب عليها «من أراد أن تطول لحيته فليمشطها».
الحجاج.. كريما
أعد الحجاج مائدة في يوم عيد فكان من بين الجالسين أعرابي فأراد الحجاج أن يتلاطف معه فانتظر حتى شمر الناس للأكل وقال: من أكل من هذا ضربت عنقه، فظل الأعرابي ينظر للحجاج مرة وللطعام مرة أخرى ثم قال: أوصيك بأولادي خيرا. ..
وظل يأكل فضحك الحجاج وأمر بأن يكافأ.
كان الحجاج بن يوسف الثقفي، على ما به من صلف وتجبر وحب لسفك الدماء، جوادا كريما لا تخلو موائده كل يوم من الآكلين، وكان يرسل إلى مستطعميه الرسل، ولما شق عليه ذلك، قــــــال لهم: رسولي إليكم الشمس إذا طلعت، فاحضروا للفطور، وإذا غربت فاحضروا للعشاء..
وحدث أنه خرج يوما لصيد، وكان معه أعوانه وحاشيته، ولما حضروا غداؤه قــــــال لأصحابه التمسوا من يأكل معنا فتفرقوا كل إلى جهة فلم يجدوا إلا أعرابيا فأتوا به فقال له الحجاج: هلم يا أعرابي فكل فقـــال الأعرابي: لقد دعاني من هو أكرم منك فأجبته قـــال الحجاج ومن هو؟، قـــال الأعرابي: الله سبحانه وتعالى، دعاني إلى الصوم فــــــأنا صائم. قـــال الحجاج: صوم مثل هذا اليوم على حره؟ قـــال الأعرابي: صمت ليوم هو أحر منه. قـــال الحجاج فأفطر اليوم وصم غدا قـــال الأعرابي: أو يضمن لي الأمير أن أعيش غدا قـــال الحجاج: ليس لي إلى ذلك سبيلا، قــال الأعرابي: فكيف تطلب مني عاجلا بأجل ليس عليه سبيلا؟ قــال الحجاج إنه طعام طيب.
قـــال الأعرابي: والله ما طيبه خبازك ولا طباخك ولكن طيبته العافية.
قـــال الحجاج أبعدوه عني.
الحجاج والفتى المحدث
ذكر أهل التواريخ أن الحجاج بن يوسف الثقفي سهر ليلة وعنده جماعة فقال لأحدهم: يا خالد ائتني بمحدث من المسجد، فانتهى إلى شاب قائم يصلي فجلس حتى سلم ثم قال: أجب الأمير. فقال: أبعثك الأمير إلي قاصدا، قال: نعم فمضى معه حتى انتهى إلى الباب فقال له خالد: كيف أنت ومحادثة الأمير. قال: سيجدني كما يحب أن شاء الله تعالى، فلما دخل عليه قال له الحجاج: هل قرأت القرآن؟ قال: نعم وقد حفظته، قال: فهل تروي شيئا من الشعر، قال الفتى: وما من شاعر إلا وأروي عنه؟ قال: فهل تعرف من أنساب العرب ووقائعها؟ قال: لا يذهب عني شيء من ذلك. فلم يزل يحدثه بكل ما أحب حتى إذا هم بالانصراف، قال: يا خالد، مر للفتى ببرذون وغلام ووصيفة وأربعة آلاف درهم. فقال الفتى: أصلح الله الأمير بقي من حديثي أظرفه وأعجبه فأعاده الحجاج إلى مجلسه وقال: حدثني.
فقال: أصلح الله الأمير هلك والدي وأنا طفل صغير فنشأت في حجر عمي وله ابنة بسني، وكان في التصابي من الصبا وما كنا فيه أعجوبة، حتى إذا بلغت، وبلغت تنافس الخطاب فيها وبذلوا فيها أموالا لجمالها وكمالها، فلما رأيت ذلك خامرني السقم، وضنيت ورميت على الفراش ثم عمدت إلى خابية عظيمة فملأتها رملا وصخرا وقبرت رأسها ودفنتها تحت فراشي، فلما تم على ذلك أيام بعثت إلى عمي فقلت: يا عمي، إني كنت أريد السفر فوقعت على مال عظيم وخفت أن أموت ولا يعلمه أحد فإن حدث بي أمر فأخرجه وأعتق عني عشر نسمات واحجج عني عشر حجج، وجهز عني عشر رجال بخيولهم وأسلحتهم، وتصدق عني بألف دينار، ولا تبال يا عم! فإن المال كثير. فلما سمع عمي مقالتي أتى امرأته فأخبرها بقولي فما كان بأسرع من أن أقبلت بجواريها حتى دخلت علي فوضعت يدها على رأسي ثم قالت: والله يا ابن أخي ما علمت بسقمك وما حل بك حتى أخبرني أبو فلان الساعة. وأقبلت تلاطفني وتعالجني بالأدوية وحملت لي لطائف، وردت الخطاب عن ابنتها، فلما رأيت ذلك تحاملت ثم بعثت إلى عمي أن االله عز وجل قد أحسن إلي وعافاني فابتغ لي جارية من خصالها وكمالها كيت وكيت، ولا يسألونك شيئا إلا أعطيته، فقال: يا ابن أخي ما يمنعك من ابنة عمك؟ فقلت: هي من أعز خلق االله تعالى علي غير أني قد خطبتها قبل ذلك فامتنعت قال: كلا، أن الامتناع كان من قبل أمها، وهي الآن قد سمحت ورضيت بذلك. فقلت: شأنك. فرجع إلى امرأته فأخبرها بقولي، فجمعت عشيرتها فزوجوني إياها فقلت: عجل علي بابنة عمي كيف شئت ثم أريك الخابية، ولم تدع شيئا يصنع بأشراف النساء إلا فعلته. ثم زفت ابنتها علي، وأحضرت كل ما وجدت إليه سبيلا، وأخذ عمي متاعا من التجار بعشرة آلاف درهم، وكان يأتينا في كل صباح من قبل أبويها لطائف وتحف مدة، فلما كان بعد ذلك بأيام أتاني عمي وقال: يا ابن أخي، إنا قد أخذنا من التجار متاعا بعشرة آلاف درهم، وليسوا صابرين على حبس الثمن، قلت: شأنك والخابية، فمر مسرعا حتى جاء بالرجال والحبال فاستخرجها وحملها، ومر مسرعا إلى منزله فلما فتحها كان فيها ما علمت، فما كان بأسرع من أن جاءت أمها بجواريها فلم تدع في منزلي كثيرا ولا قليلا إلا حملته، فبقيت مهانا على الأرض وجفتنا كل الجفاء، فهذا حالي، أصلح االله الأمير، فأنا من خجلي وضيق صدري آوي إلى المساجد.
فقال الحجاج: يا خالد، مر للفتى بثياب ديباج وفرس أرمنية وجارية وبرذون وغلام وعشرة آلاف درهم. وقال: يا فتى عد إلى خالد غدا حتى تستوفي منه المال. فخرج الفتى من عند الحجاج، قال: فلما انتهيت إلى باب داري سمعت ابنة عمي تقول: ليت شعري ما أبطأ بابن عمي، أقتل أم مات أم عرض له سبع؟ قال: فدخلت عليها وقلت: يا ابنة عمي أبشري وقري عينا فإني أدخلت على الحجاج فكان من القصة كيت وكيت، وحكيت لها ما كان من أمري، فلما سمعت الفتاة مقالتي لطمت وجهها وصاحت، فسمع أبوها وأمها وأخوها صراخها فدخلوا عليها وقالوا لها: ما شأنك؟ فقالت لأبيها: لا وصل الله رحمك ولا جزاك عني وعن ابن أخيك خيرا، جفوته وضيعته حتى أصابته الخفة وذهب عقله اسمع مقاله. فقال العم: يا ابن أخي ما حالك؟ فقلت: والله ما بي من بأس إلا أني دخلت على الحجاج وذكر له من أمره ما كان وأنه أمر له بمال جزيل.
فقال العم لما سمع مقالته: هذه مرة صفراء ثائرة فباتوا يحرسونه تلك الليلة فلما أصبحوا بعثوا إلى المعالج، فيقول الفتى: والله ما بي من بأس وإنما أدخلت على الحجاج فكان كيت وكيت. فلما رأى الفتى أن ذكر الحجاج لا يزيده إلا بلاء كف عنه وعن ذكره ثم قال له: ما تقول في الحجاج؟ قال: ما رأيته. ثم خرج المعالج فقال لهم قد ذهب عنه الأذى ولكن لا تعجلوا بحل قيده فبقي الفتى مقيدا مغلولا، فلما كان بعد أيام، ذكره الحجاج فقال: يا خالد ما فعل الفتى؟ فقال: أصلح الله الأمير ما رأيته منذ خرج من حضيرة الأمير، قال الحجاج: فابعث إليه أحدا قال: فبعث إليه خالد حراسا، يسأل عم الفتى: ما فعل ابن أخيك؟ فإن الحجاج يطلبه. قال عم الفتى: أن ابن أخي لفي شغل عن الحجاج قد ابتلى ببلاء في عقله.قال: لا أدري ما تقول، لا بد من الذهاب به الساعة. فدخل عليه العم فقال: يا ابن أخي، أن الحجاج قد بعث في طلبك أفأحلك؟ قال: لا، إلا بين يديه. فحمل في قيوده وغله على ظهور الرجال حتى أدخل على الحجاج. فلما نظره من بعد جعل يرحب به حتى انتهى إليه فكشف قيده وغله وقال: أصلح الله الأمير، أن آخر أمري أعجب من أوله، وحدثه بحديثه فعجب الحجاج وقال: يا خالد، أضعف للفتى ما كنا قد أمرنا له، فقبض المال أجمع وحسن حاله ولم يزل مسامرا للحجاج حتى مات.