يونس جنوحي
لا تزال القرى الواقعة في إقليم تارودانت تعاني من تداعيات الزلزال. رغم انتشار صور الإعانات التي بقيت مُلقاة على جنبات الطرق والمسالك الجبلية، إلا أن الأهالي في عدد من القرى يعيشون قلقا كبيرا مما ستحمله لهم الأيام المقبلة.
هؤلاء الناس، حتى في أيام حياتهم العادية، يعيشون قلقا بشأن مواعد التزود بالمواد الاستهلاكية الأساسية. ومع اقتراب الشتاء وتوقعات انقطاع المسالك بسبب الأمطار والسيول، حتى لو عاشوا تحت خيام سميكة تقيهم البلل والبرد، يزداد هذا القلق أكثر.
الإعانات المتراكمة عرت لنا واقعا مغربيا مريرا. هناك إسراف كبير في استعمال الأطعمة، حتى دون الحاجة إليها. وهو ما تأكد لزوار الإقليم عندما رأوا بعض الشبان العاملين في توزيع الإعانات يتراشقون بينهم بقنينات المياه المعدنية. فيما عثر المتطوعون على مئات الأكياس الضخمة التي تحتوي على أطنان من الخبز الذي لم يعد صالحا للاستهلاك للأسف.
فيما بقيت أكياس بعض المواد الاستهلاكية، الصالحة للتخزين، ملقاة في العراء.
في البداية، قد يعتقد من يرى هذه المناظر، ألا أحد يرغب في التقاط هذه الأطعمة. لكن الحقيقة المريرة أن توزيعها لم يراع العدالة المجالية بين المناطق المتضررة. وهكذا تراكمت الإعانات في نقط دون غيرها، وبقيت دواوير محرومة من الطعام ويعيش سكانها عزلة حقيقية، فيما مناطق أخرى يتراشق سكانها بالحليب ويثبتون البلاستيك فوق الخيام بقنينات الزيت!
وسط ضجيج الهواتف النقالة، لا أحد سمع دعوات عناصر الجيش الملكي العاملة في الميدان، والتي دعت المتبرعين إلى الاكتفاء بإرسال التبرعات، بدل المجيء وتصويرها بالهواتف. حتى أن هناك نكتة، على «رخامتها»، لكنها تصف واقع الحال. الحكاية تقول إن مجموعة من الشباب جاؤوا بسيارة ضخمة محملة بالإعانات إلى المناطق الجبلية المتضررة، لكنهم عادوا أدراجهم إلى مدينتهم رغم أنه لم يعد يفصل بينهم وبين القرى المتضررة سوى كيلومترات قليلة. والسبب أن آلة التصوير تعطلت!
هذه القصة، واقعية كانت أم مُتخيلة، تكشف بالملموس الوجه الآخر لبعض الفئات التي حاولت الركوب على «الزلزال».
أهالي المناطق المنكوبة لديهم مناعة زائدة ضد «مُلمات» الدهر. حتى أنهم يعتبرون الزلازل وغضب الطبيعة ضريبة على الحياة، أو حادثا من حوادث الشغل التي لا بد للإنسان أن يعيشها، شأنها شأن الزواج أو السقوط من على الدراجة الهوائية. صحيح أن الخسائر فادحة، وأن الناس فقدوا أبناءهم وزوجاتهم، وتشردت أسر كثيرة وأخرى انقرضت تماما ولم ينجُ منها أحد، إلا أن سكان هذه المناطق، سواء في إقليم تارودانت أو الحوز، لديهم يقين كبير وهم على درجة كبرى من درجات الصبر.
أكثر الصور إيلاما، وبلاغة أيضا، ما قاله شاب بالكاد بلغ الثلاثين، فقد زوجته وبنتيه في الزلزال. هذا الشاب اسمه محمد ويعيش في إقليم تارودانت. عاد إلى أنقاض منزله الواقع في قرية نائية لا تبعد عن قمة «تيزي نتاست» إلا بكيلومترات قليلة جدا، وشرع يُقلب في ركام التراب. وجد محفظة ابنته الصغيرة، وبقايا دفتر كانت تخط فيه «خربشاتها»، وغير بعيد عنها وجد «دفتر الحالة المدنية»، وحمله ووضعه في محفظة البنت الصغرى، وانصرف.
هذا الشاب رفض أن تصوره كاميرا بعض الفضوليين، وانزوى إلى الخلف مُقلبا صفحات الدفتر.
على الأقل لديه الآن ما يحمله في يده عندما يذهب إلى مصالح الجماعة لكي يسجل الوفيات ويوثقها في الدفتر. هكذا هم سكان الأطلس، يعتبرون دائما أن «دفتر الحالة المدنية» مقدس، شأنه شأن قسيمة الحصول على الدقيق المدعم. وحتى لو اضطره الأمر إلى الوقوف في صف طويل وانتظار زلزال آخر من الإجراءات المُضنية، فإنه لن يتراجع عن حق ابنتيه وزوجته في أن يحملن جميعا صفة «توفيت»، في صفحات الدفتر.
هذا الرجل، وغيره من آلاف السوسيين الطيبين، حتى لو أعاد بناء منزله من جديد، وحتى لو جاء بزوجة أخرى، فلا أحد سيُنسيه في دفتر الحالة المدنية المُخزن جيدا في حقيبة أطفال.