الجوار القلق
ما يحدث في تونس من مذابح يجب أن يدفع المغرب إلى وضع عينه على الحدود مع الجزائر، فمن تلك الحدود يمكن أن يأتي الشر كله. فالجزائر لديها حدود مع دولة فاشلة اسمها ليبيا تحولت إلى مستنقع دموي وسوق حرة لترويج قطع السلاح الأشد فتكا في المنطقة، فضلا عن أن الجزائر نفسها لديها في عقر دارها جماعات إرهابية مسلحة تذرع صحراء الجزائر ومالي بحرية.
وبما أن حكام الجزائر لا يحملون المغرب في قلوبهم فيجب، خصوصا في هذه الظروف الصعبة، تشديد المراقبة في الحدود من طرف الجيش، وهذا ما حصل عندما تلقى الجنرال عروب تعليمات الملك شخصيا بتعزيز الحراسة في المناطق الحدودية مع الجزائر.
النظام الجزائري لديه عقد دفينة اسمها المغرب، بمجرد ما يعلن المغرب عن بناء معلمة أو إطلاق مشروع كبير حتى نسمع أن الجزائر ستطلق مشروعا أو معلمة مماثلة، وقد حدث هذا مع مسجد الحسن الثاني، والقطارات فائقة السرعة، أو مشاريع أخرى.
ودائما عندما ينجح المغرب في إطلاق مشروع كبير نسمع عتاب السياسيين الجزائريين لقادتهم وهم يقولون لهم: «هاد المروك ما عندهم لا غاز لا بترول وشوف شنو دايرين، وحنا عندنا كلشي والبطاطا هيا اللخرة خصنا نجيبوها من برا».
هذه ببساطة هي عقدة الجزائر تجاه المغرب، ومن شدة الكراهية التي يضمرها حكام هذا البلد لنا استفاقوا فجأة لكي يطلقوا ثلاثة مشاريع كبرى كانت نائمة في الدواليب، فقط من أجل مزاحمة المغرب اقتصاديا وإنهاكه، ولمجرد علمهم بأن المغرب وصل المراحل النهائية قبل إطلاق مشاريعه الاستراتيجية الكبرى.
أول هذه المشاريع مشروع نقل الغاز بالأنابيب الذي سيربط بين الجزائر وإيطاليا، والثاني مشروع نقل الغاز العابر للصحراء الذي سينقل الغاز والبترول من نيجيريا نحو أوربا مرورا بالجزائر. وتشتغل الجزائر مع نيجيريا أيضا على مشروع الطريق السيار العابر للصحراء الذي يرمي إلى عزل المغرب عن محيطه الإفريقي.
أما المشروع الثالث فهو مشروع «ديزيرتيك» لإنتاج الطاقة الشمسية في الصحراء الجزائرية بشراكة مع ألمانيا، وهو المشروع نفسه الذي أطلقه المغرب بشراكة مع الاتحاد الأوربي، والذي تعرض للتشويش ما أدى إلى انسحاب بعض الدول.
هدف حكام الجزائر من وراء إنشاء الأنابيب الثلاثة الناقلة للغاز نحو أوربا هو إفشال مشروع المغرب في إنتاج وتسويق الطاقة الشمسية. فالجزائر هي ثاني مزود لأوربا بالغاز الطبيعي بعد روسيا، ومن أجل إفشال تسويق المغرب لطاقته الشمسية تقترح الجزائر على الدول الأوربية شراكة استراتيجية تتضمن عرضا سخيا ومتنوعا وبأسعار تفضيلية أقل من الأسعار التي يقترحها المغرب لبيع طاقته الشمسية.
عرف حكام الجزائر كيف يستغلون مخاوف الدول الأوربية بشأن الغاز الروسي المحكوم بمآل الملف الأوكراني، لذلك استثمرت مليارات الدولارات من أجل إنشاء مشروع «ديزيرتيك» لإنتاج الطاقة الشمسية الموجهة للتصدير نحو أوربا.
قبل بضعة أشهر، وبالضبط في أكتوبر 2014، أعلنت مجموعة «ديزيرايك المغرب»، التي تم إنشاؤها سنة 2009، وقف نشاطها بسبب خلافات بين الشركاء الذين كانوا ينوون الاستثمار في استغلال الطاقة الشمسية في الصحراء والشرق الأوسط وتصديرها إلى أوربا، إذ إن تطوير مشاريع للطاقة الشمسية في قلب أوربا وارتفاع نسبة المخاطر في الشرق الأوسط جعلاهم يتراجعون.
وهنا بالضبط قررت الجزائر إطلاق مشروعها الخاص لإنتاج الطاقة الشمسية وقد خرج الوزير الأول عبد المالك سلال بنفسه لكي يعلن هذا القرار.
هناك قطاعان حيويان بالمغرب يضع النظام الجزائري عينه عليهما على الدولة المغربية أن تنتبه للمخاطر التي تتربص بهما؛ هما قطاعا السياحة والمكتب الشريف للفوسفاط.
منذ سنوات طويلة وحكام الجزائر يحاولون استنزاف اقتصاد المغرب لإنهاكه، وذلك من جهة عبر ضرب صورته الحقوقية في العواصم العالمية بخصوص قضية الصحراء من أجل تحويله إلى وجهة سياحية غير مرغوب فيها، ومن جهة أخرى التشويش على تسويق المغرب لذهبه الأخضر الذي هو الفوسفاط في الأسواق العالمية.
وعندما يستهدف النظام الجزائري قطاع الفوسفاط فهو يعرف أن خزينة الدولة تعيش في جزء كبير من مداخيلها على عائدات مبيعات الفوسفاط، كما تعرف أن الربيع العربي في تونس لم تقدح شراراته «كروسة» البوعزيزي كما يعتقد الجميع، بل ذبح العاطلين التونسيين لخمسة من مدراء شركة الفوسفاط بالجنوب التونسي عندما تصرفت مافيا النظام في لائحة توظيفات بشركة الفوسفاط وأقصت شباب المنطقة لصالح عمال من المقربين من عائلة الكوافورة زوجة بنعلي. وهكذا اندلعت أحداث الشغب التي وفرت الحطب اللازم للثورة الشعبية.
والنتيجة أن ماكينة إنتاج الفوسفاط التونسي توقفت فيما انطلقت ماكينة الإنتاج الإسرائيلية التي استغلت غياب تونس عن السوق العالمي لتسويق منتوجها الذي كانت تل أبيب تعاني كثيرا في تسويقه.
هناك علاقة وطيدة إذن بين الفوسفاط والاستقرار، وعندما يقول بنكيران إن حزبه هو من جلب الاستقرار للمغرب في عز الربيع العربي فهو يغالط الرأي العام، لأن من جلب الاستقرار هو موجة التوظيفات والتكوينات التي أطلقها المكتب الشريف للفوسفاط، وأيضا خفض فواتير الماء والكهرباء وتوظيف حكومة عباس الفاسي للعاطلين، أما الباقي فكله مجرد بروباغندا سياسية لا غير.
اليوم وبمناسبة إعطاء الملك شخصيا انطلاقة تشييد ثاني أكبر معمل للسيارات بإفريقيا، خاص بماركة «بوجو»، والذي ستحتضنه مدينة القنيطرة، وذلك بعد ثلاث سنوات على تدشين أول معمل خاص بماركة «رونو» في مدينة طنجة، جن جنون حكام الجزائر، إلى درجة أنهم اتهموا المغرب بالتورط في التجسس الاقتصادي عليهم.
وما زاد في «سعرتهم» هو اكتشافهم أن الرئيس الفرنسي «فرنسوا هولاند»، الذي زار بلادهم قبل أربعة أيام، كان يكذب عليهم بخصوص نجاح مفاوضات إنشاء المعمل ذاته في الجزائر، إذ فرحوا كثيرا لهذا «الانتصار المذهل»، وراحوا يهللون بمناخ الاستثمار «المحفز» الذي تمتاز به بلادهم.
هكذا لم تكد تمر إلا أربعة أيام كما قلنا على هذه الزيارة حتى شاهد عسكر الجزائر المشروع الذي حلموا به يتحقق فعليا في أرض «معادية» هي المغرب، لذلك كانت ردود الفعل مباشرة وصريحة، فإعلاميا لم يخف «إعلاميو المنابر العسكرية» شعورهم بـ «الشمتة»، حيث زفوا الخبر بالكثير من الحسرة التي كانت بادية على أغلب افتتاحياتهم. أما سياسيا فقد تم الوقوف عند تصريح لهولاند نفسه «يطنز» على الجزائريين بكون بوتفليقة «مازال قادرا على الحكم»، لكنهم لم يفهموا أن هذا التصريح يعبر عن مخاوف صريحة تسكن كل الذين لهم علاقة بالدولة البومدينية حول مستقبل الحكم في هذا البلد الذي انضم منذ سنوات للجمهوريات الملكية؛ فيكفي أن الشعب الجزائري أجبر على انتخاب رئيس لم يشاهده منذ سنوات، اللهم إلا دقائق قليلة في النشرات الإخبارية الرسمية في لقطات منتقاة بعناية، وغالبا ما تفضل القنوات الرسمية الجزائرية نشر صور ثابتة «للرئيس بوتفليقة» مرافقة لكل خبر، لأنهم يعرفون جيدا أن وضعه الصحي يعتبر مهددا للاستقرار.
الإخوة في الدولة البومدينية لم يقف شعورهم بـ «الشمتة» عند هذا الحد، وهم الذين جعلوا من كراهية المغرب والمغاربة عقيدة راسخة، فقد راحوا يبنون أسطورة جديدة اسمها حرب التجسس التي يخوضها المغرب ضدهم.
إن الحكام الفعليين لبلد المليون ونصف المليون شهيد هم العسكر، وليست الدمى الحزبية والحكومية، وهذا يطرح بحدة مسألة جدوى الحوار من الأساس، بمعنى كيف لمملكة مثل المغرب يبلغ عمرها اثني عشر قرنا ويزيد أن تحاور نظاما عبارة عن ثكنة يفقد كل أسسه الشرعية داخليا وخارجيا ؟
بعد مرحلة الشرعية التحررية، والتي انتهت مع «بن بلة»، فإن الجزائر دخلت مرحلة النكران، وإن كان من محاور فهو الشعب الجزائري لا حكامه، فإذا كان «الهواري بومدين» شيخ البومدينية، الحاكمة في الجزائر اليوم، قد دشن دخول الجزائر مرحلة النكران، منذ أن تماهت سلطته الشخصية بالدولة، فإن أتباعه اليوم عملوا على عجن سلطة الدولة مع شخص بوتفليقة المتوج «ملكا» منذ سنوات. وكما كان بومدين ووزير خارجيته بوتفليقة يكرهان المغرب والمغاربة، فإني أتساءل كيف سيتسنى لرجل يبلغ من العمر 78 سنة أن يغير عواطفه تجاهنا ويقبل التعايش بسلام مع جيرانه؟