الجهل المقدس
تجديد النظرة إلى التراث العربي الإسلامي، وخاصة التراث الفقهي والعقائدي والفلسفي، هو عنوان جامع لمشاريع فكرية وبحثية كثيرة، سعى فيه كثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة العرب إلى حل إشكالات النهضة والتقدم انطلاقا من تفكيك عوائق كثيرة تمنع التحاق عرب اليوم بالحداثة. مصدرها هيمنة «اجتهادات» معينة دون غيرها، وتحولها إلى ما يشبه المذهب الرسمي لدول كثيرة.
هكذا تحول ابن قيم الجوزية وابن تيمية، مثلا، من مجرد فقهاء مجددين في زمانهم، إلى أصحاب مذهب عابر للزمان والمكان. أي إلى مذهب مقدس يوجب انتقاده أو إعادة قراءته «تعزيرا» أو سجنا أو نفيا، وكذلك الأمر بالنسبة للبخاري وغيره من علماء الحديث.
ولأن الأمر لم يعد اليوم، بالنسبة للعرب والمسلمين، محض تراث أنتجه سلف، له ما له وعليه ما عليه، بل غدا نظاما مغلقا، فإنه من الطبيعي أن يتعايش المسلمون اليوم مع مختلف التناقضات الناتجة عن تطور حياتهم المعيشة وفي الوقت نفسه جمود عقائدهم. والأخطر هو الرفض المطلق لكل المحاولات التي ما فتئت تبذل، هنا وهناك، لتجديد النظرة للتراث. إذ يسجن ويقتل وينفى ويهمش ويتم التشهير بعدد كبير من المفكرين والعلماء المسلمين، لمجرد أنهم طرحوا أسئلة حقيقية على تراث فقهي وفكري ينتمي لزمن ولى، سيما عندما نجد الحكام يستمدون مشروعيتهم من هذا التراث. وكان آخر فصول هذا الوضع الكارثي، سجن المفكر المصري الشاب إسلام بحيري خمس سنوات مع الأعمال الشاقة، لمجرد أنه وقف على، ما اعتبره، منزلقات نظرية عن ابن تيمية. ليتم اتهامه بـ«ازدراء الأديان»، والأمر ذاته يتعرض له المفكر عدنان إبراهيم. هكذا تحول ابن تيمية عند قضاة مصر إلى مقدس من مقدسات الأمة.
المشكلة الكبرى هنا هي أن عدم قدرة المسلمين اليوم على فك عقدة نظرتهم غير الطبيعية لتراث أسلافهم، لم تعد فقط مصدر تناقضات كثيرة بسبب التطورات الهائلة التي تعرفها الحياة المعاصرة، بل أضحى مصدر أعباء سياسية وثقافية واجتماعية. ولعل التوتر الذي باتت تعرفه أخيرا العلاقات السعودية- الإيرانية إلا دليل على أن هذا التراث الفقهي والسياسي الذي عاشه عرب القرون الأولى للإسلام، أضحى مشكلة متفاقمة. فكما قتل المسلمون بعضهم البعض بسبب مشكلة الخلافة، هاهم يقتلون بعضهم البعض للسبب ذاته. فإيران تعدم المئات من عرب الأهواز سنويا، تحت ذرائع مختلفة، بسبب عرقهم ومذهبهم المختلف عن المذهب الرسمي للدولة. والسعودية تعدم المئات أيضا من شيعة القطيف، تحت الذرائع نفسها، لكونهم مختلفين عرقيا ومذهبيا. فالسعودية تستند لتراث فقهي أنتجه أحمد ابن حنبل في القرن التاسع الميلادي، وأعاد إحياءه محمد بن عبد الوهاب، في القرن الثامن عشر.. وخاصة في مسائل الحكم وولاة الأمر. وإيران تستند لتراث فقهي أنتجه مجموعة من المراجع الشيعية في القرون الأولى، وأحياه الخميني في القرن العشرين. وهاهما الدولتان تنقلان فتنة القرون الأولى إلى القرن الواحد والعشرين، ولا توجد دولة عربية إلا ومستها نار هذه الفتنة. لذلك فما يجري اليوم في سوريا والبحرين ولبنان واليمن ليس ببعيد عن إشكالية صميمية: إشكالية النظرة لتراث يصمم حكام الدولتين على اعتباره مقدسا.