بقلم: خالص جلبي
خرج «الخوارج» يوما على «علي» كرم الله وجهه، فأفتوا بكفره، واستباحوا دماء المسلمين وسموا عملهم «جهادا» في سبيل الله. ولكن جميع المدارس الإسلامية لم تعتبر عملهم هذا «جهادا في سبيل الله»، ولم يكن ينقصهم الإخلاص والحماس بقدر الوعي والرشد. وأخذوا في التاريخ موقعهم باسم «الخوارج». وكان الظن أنهم انقرضوا، ولكن الأفكار لا تموت ولها طبيعة معندة ثنائية، فقد تموت في تربة قاحلة لتستعيد حيويتها في تربة ملائمة، كما يحدث مع فيروس مرض «السارس SARS» الذي اندلع في ربيع 2003م من الصين. أو «كوفيد- 19» الذي خطف أمام عيني ثلاثة من أصدقائي، منهم الطبيب بشار الصلح في مونتريال، والأستاذ يحيى وصليت عليه بمقبرة مونتريال! وهكذا فالفيروس موجود ولم يولد من لا شيء، ولكنه نشط وغير طبيعته حينما تهيأت ظروف انفجاره. كما حدث في أنفلونزا عام 1918 م، حينما ضربت أمريكا فمات 550 ألف إنسان، وعلى الأرض قضى نحبهم 25 مليون إنسان بأكثر من ضحايا الحرب العالمية الأولى، وفعل الكوفيد قريبا من هذا. وفكر «الخوارج» تم إحياؤه من خلال فكر «سيد قطب»، وتم توسيعه على يد بن لادن. وهو اليوم ينتشر بمزيج انفجاري من «حماس» معاهد إسلامية ومحطات فضائية، تحرص على تجهيل المواطن ودفعه نحو حتفه، بفتاوى تعاونت على إخراجها المافيا الدينية والسياسية. ومغزى هذا الكلام أنه يجب أن يأتي من يتحدث بصراحة ليعرف «الجهاد»، وفق «فكر ديني تجديدي» في ضوء الكوارث العارمة.
ما هو الجهاد إذن، ولماذا شرع؟ وبيد من يكون؟ ومتى يكون؟ وضد من يشن؟ وهل الجهاد هو القتال المسلح؟
وجدير بالذكر أن القرآن ليس مثل كتب الفقه والقانون، بحيث يجد الإنسان في نهايته فهرسا بعناوين محددة، فيفتح على الصفحة (كذا) موضوع الجهاد أو القتال في سبيل الله. وأول سورة في القرآن «البقرة» ليست أول سورة نزلت. وهكذا فآيات الجهاد موزعة متناثرة مثل نجوم السماء في قبة القرآن، وعلى المرء أن يرسم بينها خطوطا تجعله يفهم التوجه كما نعرف الشمال، برسم خط بين نجوم الدب الأكبر فنعرف الاتجاهات ونهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وهو الذي يجب عمله مع الآيات القرآنية المنجمة المفرقة في 114 سورة. وقد حاول «ابن قيم الجوزية» في «الفقه السني» أن يرسم بانوراما لفكرة الجهاد، وقام «سيد قطب» و«المودودي» باستعارتها منه، وهي محاولة تشبه جراح الأوعية الحالي وهو يطبق طرائق ابن سينا لمعالجة أمهات الدم «Aneurysm». وكما فعل ابن القيم في ضغط الأفكار وفق فهم خاص، كان على قطب والمودودي فعل العمل الإبداعي نفسه، بتجاوز ابن القيم في ضوء حركة التاريخ وتطور الواقع، وكان عليهما إبداع نظرية جديدة تتوافق مع حركة التاريخ وتطور المجتمعات الإنسانية، ولكن مشكلة «الفكر السلفي» أنه يرى أن التقدم إلى الأمام هو في الرجوع إلى الخلف. وهي ليست نكتة، بل يرى فيها عين الحكمة بالرجوع إلى النبع الصافي، فكلما أوغلنا في القدم اجتمعنا بأدمغة فهمت الشريعة والقرآن أفضل. وهو خطأ مضاعف مركب في الحركة ونقطة الوصول؛ فالرجوع هو حمل أفكار تراكمية ليست نظيفة، كما أن أدوات فهم التاريخ ليست حديثة. فعلماء الأركيولوجيا أو الأنثروبولوجيا يستقرئون تاريخ الإنسان وطبقات الأرض بأدوات معرفية حديثة. ولا يمكن الوصول إلى عمر (الأحافير) بدون تقنية (الكربون 14) أو (انقلاب البوتاسيوم إلى آرغون)، ومن يريد استكشاف القرآن بدون الاستعانة بالعلوم الإنسانية المساعدة، كمن يريد فك حجر رشيد بدون لغة هيروغليفية. والنص القرآني مكتوب بلغة عربية، والدخول على النص يحمل كل إشكاليات علم الألسنيات، مضافا إليها علم التاريخ، والاقتراب من النبع الصافي لا يزيد على وهم. ويخيل للبعض أنهم إذا قرؤوا القرآن اليوم فهموه كما فهمه العربي قديما، فذهل من قوة النص، ونحن لا نعرف أسرار البلاغة أكثر مما يفهم أحدنا سر صقل الألماس. فهذا هو الفرق بين من ينظر إلى الأمام ومن يرجع إلى الخلف. بين الفكر «السلفي» وبين الفكر «التجديدي»، بين الفكر «النقلي» والعقل «النقدي»، ومغزى هذا الكلام التحرر من الفكر السلفي كما ذكرنا عن الخلاص من فكر «الخوارج»، وبتتبع مسار الآيات القرآنية وبنظرة «بنيوية Structure»، نرى أن الآيات متفاوتة جدا بين مصطلحي «الجهاد» و«القتال»، فلا يعني الجهاد القتال، وإن كان الثاني يدخل تحته، وهو يذكر بالمشفى الذي يضم أجنحة شتى من مخبر وقسم أشعة وباطنية، بالإضافة إلى قاعة العمليات الجراحية. ولكن لا يوجد أي مشفى في العالم يشتغل من بابه إلى محرابه بالجراحة فقط، وإلا تحول إلى مسلخ، وكذلك القتال المسلح في الإسلام.
وبتأمل الآية من سورة «الفرقان» نعرف أن الجهاد الأكبر هو فكري «فلا تطع الكافرين وجاهدهم به ـ أي بالقرآن ـ جهادا كبيرا»، وهذا التفريق يجعلنا ندرك أن مؤسسة الإسلام تعنى بتغيير ما بالنفوس ولا تريد القتل من أجل القتل. والجهاد ـ بشقه المسلح ـ لم يشرع «لنشر الإسلام»، بل للدفاع عن المظلومين الذين «أُخرِجوا» من «ديارهم» و«عقائدهم» بالقوة المسلحة، حتى لا تكون فتنة، والفتنة أشد من القتل. وهذا التفريق مهم فالجهاد «وظيفة» يتم بواسطتها التدخل «لتحرير الإنسان» أينما كان ومهما دان من «الظلم» الواقع عليه، بإخراجه من «داره»، أو «لتبديل آرائه» تركا واعتناقا بالقوة المسلحة. ولعل العالم العربي في ظل الأنظمة الشمولية أكثر مكان تنطبق عليه هذه المواصفات. و«الجهاد» بهذا «أداة» يمكن أن تسخر ضد «المسلمين» الذين يمارسون الاضطهاد. ونحن يصعب علينا تصور أن يحدث هذا للاختلاط الواقع بين «الإسلام» و«المسلمين». ولا نستطيع تصور أن يكون الكافر عادلا، أو أن يكون المسلم ظالما. ولكن مقارنة بين كل من «شرودر وميركل»، الألمانيين اللذين لم يفتحا القرآن قط، و«صدام» الذي ترك مصحفه مفتوحا على سورة «الحجر» في مخبئه، توضح المثل. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فروا من اضطهاد قريش إلى عدل النجاشي في الحبشة، ولم يكن مسلما. كما أن إمكانية أن تبغي فئة مسلمة على أخرى «مسلمة» واردة، «فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله».
نافذة:
مؤسسة الإسلام تعنى بتغيير ما بالنفوس ولا تريد القتل من أجل القتل والجهاد بشقه المسلح لم يشرع لنشر الإسلام بل للدفاع عن المظلومين الذين أخرِجوا من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة