شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الجديد الفكري والتأهل لاستقباله

تسعى جهات من النخب، منذ حوالي العقد، لاستعادة الفلسفة إلى البرامج، باعتبارها تعين على التفكير النقدي. وهذه الدعوة هي من آثار سنوات الأصولية والتأصيل والإرهاب. ولا بأس بها بالطبع، ومعرفة التاريخ الفكري لكل التخصصات، ومنها تاريخ الفلسفة، فهي مهمة جدا ولا يصح الاستغناء عنها. وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الاختلاف، ونحن محتاجون إليه للتعلم على تقبل الاختلاف في الآراء، مثلما تعودنا على تقبل الاختلاف بين الفقهاء.

لقد ظهرت بالفعل منصات عدة للفلسفة الحديثة، وهي تنتج الكثير، منه الجيد ومنه الرديء. أما أنا فيهمني ما يقوم به أساتذة الفلسفة القدامى والجدد من ترجمات لنصوص فلسفية قديمة وحديثة ومعاصرة، وبأمانة ودقة، ولغة عربية قشيبة. لقد أذهلتني ترجمة «دار الكتاب الجديد المتحدة» ببيروت لكتاب جان غريش، «العوسج الملتهب وأنوار العقل.. ابتكار فلسفة الدين»، والصادر في أربعة مجلدات. وكنا نحن الذين لا نتقن الفرنسية نتمنى ذلك من زمان. لن أستطيع عد الكتب المترجمة التي أعجبتني في المعارض، مع أنني عرفتها بلغاتها الأصلية، لكننا عدنا نطمع بإحياء اللغة الفلسفية العربية، بعدما كانت المصطلحات العلمية والفلسفية توضع بالعربية، ثم تترجم إلى اللاتينية.

ومشكلتنا مع أجيالنا والعربية أعمق من مشكلات المصطلح الفلسفي وغيره، ذلك أن 40 في المائة من المتعلمين يبدؤون تعليمهم بغير اللغة الأم، فلا يعرفون فصحى الأم، وتظهر لديهم لغة جديدة هي خليط من عاميات البيئة والمفردات الإنجليزية. الخبراء يقولون إن استيعاب الصغار لا يكون كاملا، لأن المعلومات تعطى بغير اللغة الأم أو ما يشبهها. وأنا لا أُصدق أن الإعراض عن العربية علته أنها لم تتقدم مع تقدم العلم، وإلا فكيف تقدم اليابانيون والصينيون في العلوم إلى أبعد الحدود، وحافظوا على لغاتهم الأصلية وطوروا طرائق تعليمها.

أعتبر أن مسألة اللسان خطيرة وتتصل بالتفكير والفهم من جهة، وبالقدرة الدقيقة على التعبير. كل يوم نقرأ ونسمع عن عربي أو أكثر تفوق عالميا.

وهذا لا يكفي، فقد يكون المتفوق- إلا في ما ندر- قد تعلم في دنيا الله الواسعة عشرات السنين. كيف يمكن صنع وإنتاج تعليم حديث وعالي المستوى، ويظل لساننا وتظل لغتنا قادرة على التفكير والإنجاز في ذلك كله. تُجمع التقارير عن التعليم بالمدارس والجامعات أنه في مدارس ببعض الدول لا بأس به، لكنه في الجامعات، حيث ينبغي أن ينمو البحث العلمي ليس على ما يرام. للأمر جانبان: جانب اللغة في التعليم، وجانب اللغة في الثقافة العامة. وقد تُعذَرُ غربة اللغويات في التعليم العالي، لكنها غير مفهومة في الثقافة العامة. إذ الثقافة تصنعها كل القوى الاجتماعية الثقافية والفكرية والأدبية وغيرها.

ونحن لا نشكو من قلة هذه القوى، بل من مستواها. والمستوى السيئ سببه وسائل التواصل التي لا تتطلب جهدا ولا مستوى. وبالطبع فالعالَم كله يشكو من وسائل التواصل، لكن هناك جهود جبارة في العالم في صناعة المحتوى، ولا نجد ما يضاهيها ولو من بعيد بالعالم العربي.

فإذا كان التعليم ملفا خطيرا، فإن الثقافة العامة المتضائلة تضاهيه في الخطورة. نحن محتاجون إلى الجديد والمتقدم الجدي، وقادرون على استقباله واستعماله. لكن الشبان الساعين إلى الجديد أولوياتهم مختلفة، وليس منها الثقافة العامة، ولا حتى المسائل الثقافية والحضارية. فلتكن الثقافة العامة بين الأولويات، إذ إنها تحتضن هي أيضا الجديد والنافع، واللسان هو أداة التعبير عنها.

رضوان السيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى