الجابري: «يوم كتبت «التحرير» أن كل وجود عسكري لفرنسا بالمغرب يتناقض مع قضية التضامن مع الجزائر في حربها التحريرية»
وفي يوم 9 نونبر 1959 كتبت في ركن «صباح النور» في «التحرير» التعليق التالي في الموضوع نفسه:
يقول التعليق: «هناك شيئان اثنان يعرقلان سير المغرب نحو أهدافه ويعوقان مشاريع الحكومة وبرامجها البناءة:
الشيء الأول، هو الجهاز الإداري الفاسد، هذا الجهاز الذي بدون صلاحه وانسجامه مع الحكومة تصبح أعمال هذه معطلة وتبقى حبرا على ورق. والفساد المستشري في جهازنا الإداري على نوعين: نوع أفسدته النزعات الحزبية والخضوع لا لمشيئة الحكومة وأوامرها، بل للهدامين والمخربين وأصحاب الأهواء والعابثين، الأمر الذي جعل من الإدارة عنصرا معارضا هداما لسياسة الحكومة ومشاريعها. وهذا النوع لا يوجد قط في أية بلاد، سواء كانت ديمقراطية، أو استبدادية ديكتاتورية. فالمعروف في جميع البلدان أن الإدارات الحكومية تتبع الحكومة وتخضع لها خضوعا تماما. فإذا كانت الحكومة فاسدة كانت الإدارة منفذة للفساد، وإذا كانت الحكومة صالحة كانت الإدارات تجسم صلاح الحكومة في الواقع الملموس.
أما في بلادنا، فالأمر على العكس من ذلك: الحكومة صالحة والإدارات فاسدة تعارض أعمال الحكومة، ويعمل بعض منها على تحطيمها وعرقلة تمثيلها.
الشيء الثاني: عدم التوازن في كثير من مرافق الحياة عندنا، وخصوصا في المصروفات. وبعبارة أخرى إن مصروفات الدولة هي الآن على خلاف ما يجب أن تكون عليه. ففي البلاد الحديثة العهد بالاستقلال المتخلفة اقتصاديا، يجب أن تكون المصروفات متوازية مع الحاجات الملحة، بمعنى أن القسم الأكبر من الميزانية يجب أن يتجه نحو المرافق الحيوية للبلاد، أي يجب أن تنال ميزانية التعليم وميزانية الصحة وميزانية الفلاحة والتصنيع يجب أن تنال هذه المرافق الحيوية أكبر قسط من الميزانية، لأن داء الشعوب المتخلفة كبلادنا هو الجهل والفقر والمرض. وللقضاء على الجهل يجب أن تخصص ميزانية ضخمة للتعليم، كي يتسنى بناء مدارس جديدة تستطيع إيواء الأطفال المشردين في الطرقات، ويتسنى رفع أجور المعلمين، كي لا يفضلون الوظائف الأخرى على التعليم. وللقضاء على الفقر، يجب أن تنال شؤون الفلاحة والتصنيع قسما وافرا من ميزانية الدولة، حتى تستطيع الحكومة تطوير الأساليب الفلاحية، وفتح معامل وطرقات جديدة. وبذلك يقضى على البطالة التي هي الداء العضال في بلاد كبلادنا. وللقضاء على الأمراض، يجب أن يخصص مقدار مهم للصحة لبناء المستشفيات وإيجاد الأسرة اللازمة والأطباء الذين يحتاج إليهم. أما غيرها من المرافق، فتلك مرافق غير منتجة لا تستحق الاهتمام الذي تلاقيه في بلاد مسالمة كبلادنا.
وإذا أردنا، حقيقة، النهوض ببلادنا فيجب أن تصرف إمكانيات البلاد في محاربة هذا الثالوث: الجهل، الفقر، المرض. ومادامت إداراتنا فاسدة تقوم بمعارضة الحكومة، ومادامت إمكانيات البلاد المادية تصرف في غير التعليم والصحة والفلاحة والتصنيع، مادام الأمر كذلك فإن البلاد ليست بخير وبعيدة عن الخير.
كلمة صريحة لا بد من قولها».
التوقيع: عصام
واستمرت حملتنا ضد الفساد الإداري بنفس اللهجة وفي نفس الاتجاه في الرأي العام. من ذلك هذا التعليق القصير الذي نشرته في عدد يناير 1960، ركن بـ«العربي الفصيح».
يقول التعليق:
«تحدث الناس قديما وحديثا عن الفساد، تحدث عنه الأنبياء والحكماء والمفكرون، تحدثوا عنه في جسم الإنسان وفي الحيوان وفي النبات. وفي ما يلي بعض الأقوال المأثورة الخالدة: يقول الحديث الشريف: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، هذا عن الفساد في الإنسان.
أما عن الفساد في الحيوان فهناك حكيم يوناني قال: «إن الفساد في السمكة يبدأ من الرأس».
وعن الفساد في النبات قال كاتب فرنسي «برتقالة واحدة فاسدة تفسد جميع البرتقالات في السلة»، وفي هذا المعنى يقول المثل المغربي: «حوتة واحدة تخنز الشواري».
لذلك، فحين نحارب الفساد ونشهر به فنحن لا نأتي بالشيء الجديد، وقديما قالوا: «لا جديد تحت الشمس»».
ابن البلد
ثانيا: الوجود العسكري الفرنسي في المغرب والثورة الجزائرية
ومن القضايا الأساسية التي كانت موضوع الصراع مع خصوم التحرر، قضية موقف «المغرب الرسمي» من قضية جلاء القوات الفرنسية عن المغرب، وعلاقة ذلك بالكفاح التحرري الذي كان يخوضه الشعب الجزائري الشقيق. وحتى نعطي صورة واضحة عن طبيعة هذا الصراع، نشير هنا إلى أن اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بإقليم الرباط، قد اجتمعت تحت رئاسة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وقد جاء في الكلمة التي ألقاها بالمناسبة ما يلي: «قضية الجلاء هي قضية رقم 1 بالنسبة لقضايانا الوطنية. اتفاقية الجلاء التي وافقت عليها الحكومة (التي شكلت إثر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم وكان رئيسها الفعلي هو ولي العهد) هي تقريبا نفس الاقتراحات الفرنسية عام 1957 (التي كان المغرب قد رفضها). إن هذه الاتفاقية لم تراع القضية الأساسية، وهي قضية الجزائر. إننا لا نقبل أن يبقى المغرب قنطرة للقوات الاستعمارية في الجزائر». وحول هذا التصريح كتبت في ركن «بالعربي الفصيح» بـ«الرأي العام» التعليق التالي يوم 18 أكتوبر 1960: «ومن الجدير بالإشارة هنا إلى أن ما ينتقده هذا التعليق في سلوك المسؤولين المغاربة يومذاك إزاء وجود القوات الفرنسية بالمغرب واستعمالها للأرض المغربية لضرب الثورة الجزائرية، هو من الأسباب التي جعلت المسؤولين الجزائريين بعد الاستقلال يقفون موقفا غير ودي من المغرب وصحرائه».
يقول التعليق:
«في العرض الذي تقدم به الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد في اجتماع اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بإقليم الرباط ـ والذي يجد القانون ملخصا له في هذا العدد من الجريدةـ في العرض المذكور بيان واضح لمدى ارتباط قضايا المغرب العربي بعامة بالقضية الجزائرية، ومدى ارتباط القضايا الوطنية المغربية، وخاصة منها الجلاء بالحرب التحررية التي يخوضها الشعب الجزائري الشقيق. والحق أن بعض الناس في المغرب ما زالوا ينظرون إلى الحرب الطاحنة التي تدور في الجزائر، كمشكلة خارجية وكقضية ليست من صميم قضايانا الوطنية. إن بعض الناس ينظرون إلى الحرب التحررية في الجزائر كأنها حرب بعيدة عنا، وأنها لا تهمنا إلا من حيث التضامن مع الشعوب المكافحة.
ورغم السنوات الست الطوال التي انقضت الآن على الحرب التحريرية في الجزائر، فإننا مع الأسف ما زلنا نرى في المغرب من ينظر إلى هذه الحرب نظرة اللامهتم، وحتى الكلام الذي يقال في القضية، قضية الجزائر، فإنه في غالب الأحيان قليلا ما يتعدى مستواه مستوى الكلام الذي يقال في شأن قضية الكونغو، أو قضايا التحرر الإفريقي. ومثل هؤلاء الناس لم يدركوا بعد أن الحرب التي تخوضها الجزائر هي حرب المغرب العربي كله، وأن استقلال كل من المغرب وتونس يتوقف على استقلال الجزائر. هذا فضلا عن وحدة المغرب العربي التي لا يمكن أن تقام إلا على أساس التضامن العملي الفعال من أجل تحرير أراضي المغرب العربي. ولعل موقف المغرب الرسمي قريب من ذلك النوع من التفكير. ذلك لأن تضامن المغرب مع الجزائر تضامنا حقيقيا يقتضي أولا وقبل كل شيء، عدم ترك أي شيء في المغرب من شأنه أن يخلق متاعب للمناضلين الجزائريين. وإن أول مقتضيات التضامن مع الجزائر، هو أن لا تطعن الجزائر من التراب المغربي. وبالعربي الفصيح فإنه مادامت لفرنسا في المغرب قواعد أو مدارس عسكرية أو قوات أو جنود أو أي مظهر من مظاهر الوجود العسكري أو شبكات للتجسس، ما دام هذا في المغرب، فإن كل ما يقال من تضامن المغرب مع الجزائر سيبقى شيئا فارغا تماما. فالتضامن ليس كلاما، وإنما هو سلوك وعمل. ومن السهل أن يرى الإنسان في الوجود العسكري الفرنسي في المغرب، هذا الوجود الذي يستغل بدون شك ضد المناضلين الجزائريين، من السهل أن يرى الإنسان في ذلك تضامنا ولو ضمنيا مع فرنسا. وإذا قيل إن الجنود الجزائريين يجدون ملاذا في الأرض المغربية، فإن الجنود الفرنسيين يجدون وبدون تستر نفس المستراح والمهرب. ويمكن أن يستنتج من ذلك أن الموقف العملي للمغرب تجاه القضية الجزائرية هو موقف مشبوه فيه، أي أنه غير واضح. ولا نريد أن نقول إنه متساو على الأقل بالنسبة للطرفين.
لذلك نرى أن كل وجود عسكري لفرنسا في المغرب يتنافى ويتناقض بوضوح مع قضية التضامن مع الشعب الشقيق في حربه التحريرية. قد أدرك الاتحاد الوطني هذه القضية، هذا النوع من الإدراك، لذلك طالب ويطالب بالجلاء الحقيقي، جلاء جميع مظاهر الوجود العسكري الفرنسي بما في ذلك شبكات التجسس التي تعمل باسم الفنية أو المساعدة. وفضلا عن كون هذا الجلاء الحقيقي والتام مطلب وطني ملح تقتضيه سيادتنا الوطنية، فإنه أيضا ضرورة أساسية لكي يمكن أن يكون هناك تضامن مع الجزائر.
إن الجزائر منا ونحن منها، والحرب الدائرة هناك هي حربنا وحرب الجزائر وحرب المغرب العربي كله. هذه حقيقة يجب أن ندركها ونعمل لمستقبلها، وكل تجاهل لهذه الحقيقة هو في الحقيقة خيانة كبرى يسجله التاريخ علينا». التوقيع: ابن البلد.