الجابري ينتقد المقاومة ويدعو إلى «الديمقراطية الصحيحة والعدالة الاجتماعية الحقة»
سنقتصر في هذا الفصل على واجهة المقاومة، وهي الواجهة التي كانت أشد توترا من غيرها، والتي في إطارها وانطلاقا منها تمت أعنف حملات القمع، ابتداء من اعتقال اليوسفي والبصري يوم 15 ديسمبر 1959 إلى الهجمة الشاملة التي تعرض لها الاتحاد الوطني يوم 16 يوليوز 1963 وما تلاها من هجمات.
أولا: المقاومة فكرة وثورة
تحت هذا العنوان نشرت بتوقيعي في عدد 18 يونيو 1959 من التحرير المقالة التالية، وذلك بمناسبة «يوم المقاومة» ومع أن هذه المقالة تنطلق انطلاقة نظرية فإنها سرعان ما تطرح مسألة المقاومة في المغرب من منظور نقدي صريح. فالمقاومة التي انطلقت كانتفاضة ناجحة وقوية بعد عزل محمد الخامس، سرعان ما قبلت المساومة وفرطت، فكانت النتيجة وضعية فاسدة تكشف عنها الاستقلال منذ أول يوم. وتأتي حركة 25 يناير كانتفاضة ثانية لاستئناف المسيرة. ولكن هل ستستطيع هذه الانتفاضة مواصلة الطريق إلى أن تتدارك ما فات حركة المقاومة، وكيف؟ تنتهي المقالة بالتنبيه إلى أن «الانتفاضة أو الثورة التي توقفت مرة ليس من البعيد أن تتوقف مرات أخرى إذا هي ترددت أو ساومت أو رضيت بأنصاف الحلول كما حدث أن فعلت انتفاضة المقاومة من قبل».
هذا النقد الذي كتبته في يونيو 1959 كان يعكس الوعي الجديد الذي أخذ يجري في عروق أسرة المقاومة. ومما يجب أن يلفت النظر هنا هو أن المهام الجديدة التي تطرحها المقالة كبديل وكاستئناف لانتفاضة المقاومة وتدارك ما أهملته من قبل «تتلخص في الديمقراطية الصحيحة وعدالة اجتماعية حقة». إن كاتب هذه السطور لم يفتأ يطرح مسألة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية منذ بداية الاستقلال إلى اليوم. وما يهمنا الآن هو التنبيه إلى أن مسألة المقاومة، فكرتها وأهدافها وما أنجزت وما لم تنجز، وأيضا مأساة المقاومين بما فيهم المعطوبين، قد بدأنا في طرحها في التحرير بشكل ملح منذ هذا التاريخ، حزيران / يونيو 1959، وذلك تحت ضغط الوضعية المزرية التي كانت تعيشها عائلات الشهداء وأسر كثير من المقاومين بمن فيهم المعطوبين. كانت هذه العائلات والأسر تواجه بأنواع من المراوغة والتهرب والتعنيف من طرف كثير من الإدارات التي كانت تقصدها للشكوى، مما جعلها تتجه إلى مكاتب التحرير صباح مساء لعرض ما كانت تعانيه وتتعرض له. وبما أني كنت المسؤول عن القضايا الداخلية والتوجيه السياسي فقد كنت أستقبلها للاستماع إليها وكتابة تقارير للنشر، تخفيفا عن الأستاذ اليوسفي الذي كان زوارنا من هذه العائلات والأسر يقصدونه بوصفه رئيس جمعية المقاومة وجيش التحرير، فضلا عن مهمته كرئيس تحرير الجريدة. وسنرى بعد هذه المقالة كيف أن مأساة المقاومين والمعطوبين في المقاومة قد طرحت نفسها بإلحاح أكبر. وأن طرحها بمثل هذا الإلحاح كان من الأسباب المباشرة التي أدت إلى اعتقال الأخوين البصري واليوسفي ثم عدد آخر من المقاومين، مما سنفصل القول فيه لاحقا. أما الآن فلنقرأ المقالة التي كانت ـ فيما أذكر ـ أول ما كتبت في هذا الموضوع. وترجع أهميتها التاريخية في نظري إلى أنها كانت رد فعل شخصي وذات طابع نقدي يتجاوز ظروف وضعية المقاومين المزرية تلك، إلى «الأسباب الذاتية» (في المقاومة المغربية) التي أنتجت تلك الوضعية. ويجب ألا ننسى أن الحقبة التي كتبت فيها هذه المقالة (1959) كانت مطبوعة بالمد التحرري الثوري في العالم الثالث كله.
هناك جانب آخر لابد من إبرازه هنا بصدد هذه المقالة. أقصد كونها تشكل مفتاحا لنوع السلوك الذي طبع عملي في الاتحاد وصحافته. ذلك أني كنت قضيت في دمشق سنتي الجامعية الأولى (1957 ـ 1958). وبما أنني ذهبت إلى سوريا بوعي سياسي مرتفع نسبيا، فقد كنت مؤهلا للانتقال به هناك إلى مستوى نظري أيديولوجي لم يكن له مثيل في المغرب يومئذ، وذلك من خلال قراءة الجرائد والمنشورات الأيديولوجية، من كتب وغيرها، ومن خلال الجو الجامعي المفعم حياة وخصوبة آنذاك.
إن ذلك قد جعلني أكتشف في سوريا، مدى الفقر النظري والأيديولوجي في المقاومة المغربية التي كنت أعرف كثيرا من رجالها من خلال العلاقات العائلية أساسا. كان جميع المقاومين ـ تقريبا ـ أميين كتابة وقراءة وفكرا. كانوا يتصرفون بدافع الغيرة الوطنية. وباصطدام هذا الواقع في وعيي مع الخطاب الثقافي النظري الأيديولوجي الذي تعرفت عليه في دمشق تولدت لدي فكرة أن التغيير يجب أن يبدأ بالتوعية السياسية والأيديولوجية للجماهير. صحيح أن ممارستي للثقافة والسياسة قد سبقت ذهابي إلى سوريا بسنوات، ولكن مع ذلك فأنا لا أستطيع أن أفسر وضعيتي كمشروع «مثقف» للحزب منذ تأسيس الاتحاد إلا باستحضار ما اكتسبته من الجو الثقافي السياسي المفتوح الذي شدني إليه شدا خلال تلك السنة التي قضيتها في دمشق طالبا جامعيا ومراسلا لجريدة العلم، محافظا على استقلالي هناك وعلى ارتباطي الوطني هنا في المغرب.
وذلك ما يفسر عزوفي عن الانخراط في أي عمل «حركي» مواز للعمل الحزبي، وذلك على الرغم من أن موقعي في الجريدة والحزب واهتمامي بـ«الخبر» كان يجعلني على علم بكثير مما كان يجري خارج الإطار الرسمي للحزب، وخارج الإطار الرسمي للدولة.
بعد هذه الاستطرادات نعود إلى المقالة التي جعلت عنوانها: «المقاومة فكرة وثورة»، لنقرأها على ضوء ما تقدم.
تقول المقالة:
«تدل كلمة مقاومة أول ما تدل على رد فعل سلبي ـ على حادثة من الحوادث أو وضع من الأوضاع. وبقدر ما يكون هذا الرد قويا بقدر ما تكون المقاومة قد أخذت مفهومها الحقيقي الفعال. وبقدر ما تكون سلبية هذا الرد عنيفة صامدة بقدر ما تكون المقاومة قد سلكت مسلكها الثوري الطبيعي.
لكن هذا لا يعني أن المقاومة عمل سلبي دائما، بل إنه إيجابي بقدر ما هو سلبي. هو إيجابي لأنه يرفض الواقع الفاسد المتعفن ويسعى نحو أوضاع خالية من هذا التعفن وذاك الفساد. وهو سلبي لأنه يعالج الأوضاع بعنف ولا يقبل المساومة والمفاوضة مهما تأزمت الأحوال، وعاكست الظروف.
ولكي تحمل المقاومة هذا المفهوم لابد لها من فكرة تستمد منها قوتها وصلابتها وتسترشد بوحيها وتوجيهاتها وتكتسب منها قابلية التطور الدائم. ولهذا يمكن القول إن المقاومة في الحقيقة ما هي إلا تجسيد للفكرة وصبغها بالفعالية التي بدونها تفقد حقيقتها وجوهرها والفكرة التي تغذي المقاومة يجب أن تكون فكرة ثورية انقلابية، ترفض رفضا باتا أنصاف الحلول ولا تقبل المساومة ولا التماطل، لأن الفكرة الثورية، والثورة نفسها، لا تقبل التجزئة ولا التقديم ولا التأخير، فهي كالسيل العرم تكتسح الأوضاع الفاسدة والنتوءات الناشزة اكتساحا عنيفا.
والمقاومة كفكرة ثورية لا يهمها الانتصار والنجاح بقدر ما يهمها الثبات والصمود. «وإذا كان الانتصار والنجاح من المعايير العامة التي يقاس بها صواب فكرة أو صحة مبدأ، فإن قمة الانتصار ترجع إلى مقدار ما تحافظ الفكرة على حقيقتها أو يصون المبدأ نفسه من كل تسوية يرغم عليها في سبيل النجاح. فالتسوية مهما يكن لها من المبررات تنطوي على شيء من التنازل والفشل في تحقيق الفكرة التي يؤمن بها الإنسان ويناضل من أجلها».. والتنازل والفشل ليسا من الثورة في شيء، وبالتالي فالمقاومة التي تقبل بهما مقاومة اصطناعية لا تقوم على أسس متينة ولا على دوافع حقيقية صامدة. ذلك «أن التسوية والفشل إما أن يدلا على ضعف في الفكرة وابتعادها عن الحقيقة، وإما أن تكون هذه الفكرة تعبيرا عن ضعف الإنسان وعجزه عن الكفاح في سبيل ما يؤمن به أو عن ضعف الإيمان نفسه». إن الانتصار الحقيقي ليس في التغلب المؤقت على الخصم ولا في تراجع العدو ولا في تحسين الأوضاع تحسينا سطحيا. إن الانتصار الحقيقي للفكرة الثورية هو رفضها للتسوية وفي عدم اعترافها بأنصاف الحلول ولا بالمظاهر الخلابة.
وإذا نحن حاولنا على هذا الأساس تقويم المقاومة المغربية وتنزيلها مكانتها الحقة فإنه يمكن القول مبدئيا إن المقاومة المغربية أو فكرة المقاومة في المغرب قد رفضت الواقع رفضا ولكن لا من أول وهلة بل بعد أن تبين لها بالتجربة فشل المساومات وعدم جدواها.
ونحن هنا لا نقصر المقاومة المغربية على ما حدث بعد 1953 بل نرجعها إلى حين بدأ الشعب المغربي يشعر بوعي وإدراك بمدى خطر الاستعمار الفرنسي عليه وعلى مستقبله كأمة مكتملة المقومات متحدة العناصر. وقد يكون الشعور الواعي منتشرا بين أفراد الشعب حتى قبل الاستعمار ولكن لم يستكمل وعيه الحقيقي إلا بعد معاناته لتجربة الاحتلال والاستعمار، وبعد أن طرح عرض الحائط الاعتبارات الفارغة وكفر بالحلول السياسية المبنية على المساومة التي لا ينتج عنها إلا أنصاف الحلول.