الجابري: هكذا صدرت جريدة «الرأي العام» بعد اعتقال اليوسفي والبصري ومنع «التحرير»
جاء محافظ الشرطة (الكوميسير) وحمل مصطفى الأعرج وعبد العزيز الأعرج والمعلم الطاهر، في سيارة من نوع فياط ووضعهم في مدخل الديوان الملكي، وقد أدخلهم السيد المكلف بشؤون الصحافة والأخبار إلى الديوان حيث انتظروا ما يقرب من عشرين دقيقة. وفي هذه الأثناء دخل عليهم سيادة مدير الديوان وسألهم عن الغرض من الزيارة فأجابوه: «إننا جماعة من معطوبي المقاومة ونساء وأبناء الشهداء نريد مقابلة صاحب الجلالة لنعرض عليه مشاكلنا وحاجاتنا. وكان رد سيادة مدير الديوان ما مؤداه: إن لكل إدارة اختصاصها وأنا مكلف بالشكايات والرسائل. أما الاستقبالات فهي من اختصاص مدير التشريفات. وإذا كنتم لا تصدقون ذلك وتكذبونه فاسألوا مدير الديوان العسكري. ومرة ثانية توجه المقاومون المعطوبون الذين لولا الدماء التي أراقوها هم وأمثالهم لما حصل المغرب على استقلاله وسيادته، نقول: مرة ثانية، توجهوا إلى التشريفات في الساعة السادسة مساء فاستقبلهم أحد مساعدي مدير التشريفات وقال لهم: إذا كان لديكم رسالة فسلموها إلي لأدفعها إلى جلالة الملك. وكان جواب المقاومين المعطوبين: ليست لدينا أية رسالة، وكل ما نريده هو مقابلة جلالة الملك لأن جميع الإدارات أصبحت موصدة في وجوهنا. ولم يبق لدينا من ملجأ إلا جلالته. وهنا يقول المقاومون الذين زارونا أمس: «وكنا قبل ذلك، أي قبل مقابلة مساعد مدير التشريفات، قد كتبنا أسماءنا في بطاقات الزيارة وذكرنا عدد الأفراد الذين يتركب منهم وفدنا، وبعد انتظار دام 15 دقيقة خرج مساعد مدير التشريفات من مكتبه وقال لنا بالحرف الواحد: اذهبوا لحال سبيلكم. وارجعوا غدا الأربعاء بعد الظهر على الساعة الخامسة».
ويمضي المقاومون المعطوبون الذين طردوا من التشريفات في سرد قضيتهم كما وقعت بكل بساطة: «وكنا قد سمعنا أن جلالة الملك يخرج كل يوم من باب التواركة في الساعة السابعة صباحا فجئنا إلى المكان المذكور ووقفنا به منذ الساعة السادسة صباحا. ولكن رجال الشرطة جاؤوا وأرغمونا على الركوب في السيارة التي أتينا فيها من الدار البيضاء فلم نبد أية معارضة ولم نظهر أية مقاومة وإنما امتثلنا لتعليماتهم فورا. وفي هذه الأثناء اتفقنا على تشكيل وفد من خمسة رجال وثلاث نساء للاستمرار في المساعي من أجل الحصول على مقابلة جلالة الملك. ومرة أخرى جاءت سيارة الشرطة من نوع فياط أيضا وحملت ثلاثة أفراد منا هم: عبد العزيز الأعرج، مصطفى الأعرج، وحسن، ووضعهم محافظ الشرطة بباب التشريفات وأخبرها بوجودنا. وقد خرج إلينا مساعد المدير وفي يده دفتر وطلب منا أن نقول لهم من نحن وماذا نريد، فأجبنا بأننا من معطوبي المقاومة ومعنا وفد من نساء الشهداء وأبنائهم. واشتكينا له من معاملة الشرطة القاسية وقلنا إننا بتنا تحت الأمطار والبرد القارس. فما كان منه إلا أن تأسف وانصرف عنا. ثم خرج إلينا مساعد مدير التشريفات الذي كان قابلنا بالأمس، وضرب لنا موعدا في الساعة الخامسة. وخرج وقال لنا بكل بساطة ولياقة وهدوء: اذهبوا لحال سبيلكم وثقوا بأن صاحب الجلالة سيلبي جميع مطالبكم في المستقبل القريب.
وفي الساعة العاشرة بعثنا ببرقية إلى جلالة الملك نطلب فيها مقابلته ونخبره بالتعسفات والمضايقات التي تعرضنا لها. وقد بقينا ننتظر حتى الساعة الخامسة بدون أكل ولا شرب حتى أمرتنا الشرطة طبقا لتعليمات التشريفات بالخروج، ولكننا رفضنا وأصررنا مرة أخرى على الحصول على موعد لمقابلة صاحب الجلالة.
وأما هذه المضايقات والتضييقات والعراقيل والاستهزاءات المتكررة، لما قيل لنا إن مكتب صاحب الجلالة يوجد بالقرب من التشريفات، رفعنا أصواتنا لعلها أن تصل إلى أذن جلالته بعد أن فشلت جميع الوسائل الأخرى. وهنا ارتبك مدير التشريفات و»تنرفز» وأصدر أوامر للشرطة بأن تخرجنا بالقوة وفعلا قام الحرس والشرطة بإخراج سليمي الجسام منا بالقوة وسحب الآخرين (المعطوبين) خارج مكتب التشريفات. وبما أن جماعتنا كانت تضم بعض مقطوعي الأرجل واليدين وبعض مشلولي الذراعين فقد سقط عدة أفراد منا نتيجة لعنف الحرس وحرصه وتعنته في تنفيذ الأوامر. وقد توبعت عملية المطاردة حتى باب المشور. وهنا أرغمنا على الركوب في سيارتنا في الحال، وأعطيت الأوامر الصارمة للسائق أن يغادر الرباط فورا. وتركنا العاصمة تحت حراسة الشرطة حتى مسافة عشرين كيلومترا». وتنتهي المقالة بهذه العبارة: «هذه الأحداث التي حدثت وتكررت كما قلناه أمس لا تحتاج إلى تعليق أو شرح».
محاربة الفساد.. رسالتنا
كتبت هذه المقالة التوضيحية يوم 5 ديسمبر 1959. وفي عدد يوم 8 من الشهر نفسه كتبت في الركن اليومي «صباح النور» التعليق التالي تناولت فيه المضايقات التي كانت تتعرض لها التحرير.
يقول التعليق:
«بعد أن حجزت هذه الجريدة مدة يومين متتابعين (4-5 ديسمبر بأمر من السلطات المسؤولة، وبعد أن صودر قراء العددين المحجوزين في عدة نواحي من البلاد حيث سيقوا إلى مراكز البوليس للاستنطاق، بعد ذلك كله نجد البوليس يتابع أعماله المعروفة ضد التحرير. ففي عمالة تافيلالت توالي السلطات مصادرتها كأن هذه المصادرة أصبحت أبدية. وعلمنا أيضا أن البوليس يقوم دائما باستفزازات لمتعهدي الجريدة في بعض المدن حيث يسألهم عن عدد النسخ التي تصلهم منها وعدد ما يبيعون في كل يوم، ونحن هنا نتساءل: ما معنى هذه التصرفات البوليسية ضد «التحرير»؟
إن جهاز الشرطة هو أحد الأجهزة المهمة للدولة ومحاربته لـ«التحرير» يعني محاربة قطاع من قطاعات الدولة لهذه الجريدة. ونحن لا نستغرب هذه المحاربة لأن في الدولة فسادا، وفي أجهزتها فسادا، وفي مصالحها فسادا. ونحن من أول يوم أخرجنا فيه هذه الجريدة للوجود آلينا على أنفسنا محاربة هذا الفساد وتصحيح الأوضاع بالوسائل المشروعة التي يمنحها قانون الصحافة. وإذا كانت الصحافة رسالة فإن هذه الرسالة في هذه البلاد يجب أن تكون محاربة الفساد. وسواء حاربنا البوليس بمضايقاته وتجسسه بالتليفون أو بمراقبته للداخل والخارج من مطبعة الجريدة أو بمصادرة الجريدة نفسها أو قرائها أو غير ذلك من أنواع المضايقات والاستفزازات فإننا لن نسكت عن الفساد، لأن الفساد لا يمكن أن ينعت إلا بأنه فساد، وخطتنا ورسالتنا هي محاربة الفساد مادام هناك فساد في هذه البلاد.
ليفعل البوليس ما شاء وليحارب هذه الجريدة بما شاء وكيف شاء، فإن ذلك كله لا يعدو أن يكون فسادا. ومحاربة الفساد لنا دليل قاطع على سلامة خطتنا وانسجامنا مع الجماهير التي يخنقها الفساد».
بهذا التعليق أغلقنا هذا الملف، واكتفينا بالإشارة في افتتاحية نفس اليوم إلى أننا سنقدم شكوى إلى القضاء على ما نتعرض له من حجز تعسفي وما ينتج من ذلك من خسائر. لكن المسؤولين كانوا قد قرروا فتح ملف الاتحاد الوطني ككل فواصلوا حجز الجريدة تارة بعد صدورها وتارة قبل الصدور. إلى أن كان يوم 15 ديسمبر 1959، اليوم الذي حاصرت فيه الشرطة منزل الأخ البصري طيلة الصباح لتعتقله بعد الظهر، أما الأخ عبد الرحمان اليوسفي فقد كان في الجريدة كالعادة حينما تقدم ثلاثة من رجال الشرطة ليبلغوه أن لديهم أمرا باعتقاله، فذهب معهم. بقينا نواصل العمل لإصدار نفس العدد من التحرير بعنوان الرأي العام. فقد كنا على أهبة طبع العدد الأول مع الرأي العام إن أبلغتنا الشرطة بمنع صدور التحرير. ولم تمر إلا بضع ساعات حتى كان الباعة الليليون المتجولون يطوفون شوارع الدار البيضاء ثم الرباط ينادون بالرأي العام: «التحرير الجديدة». لقد صدرت الرأي العام وفي صفحتها الأولى مربع في أعلى اليسار يقول: «علمنا والجريدة تحت الطبع أن الزميلة التحرير قد أبلغت من طرف الشرطة أمرا إداريا يقضي بمصادرة أعدادها حتى صدور أمر جديد». وواصلت الرأي العام الرسالة نفسها فنشرت بلاغا للكتابة العامة يخبر عن اعتقال البصري واليوسفي ويندد بهذا التدبير التعسفي الذي يقصد من ورائه ـ يقول البيان «إحداث ثغرة في التضامن القائم بين الملك والقوات الشعبية». وبجانبه بلاغ في نفس الموضوع أصدرته جمعية المقاومة والتحرير تندد فيه باعتقال البصري واليوسفي وتستنكر فيه «تستر عناصر الفساد تحت اسم صاحب الجلالة»… إلخ. كان العدد يحمل تاريخ 16 كانون الأول/ديسمبر 1959.
3 ـ التهم الأربع الموجهة للبصري واليوسفي
وفي اليوم التالي، أعني 17 كانون الأول / ديسمبر، نشرت وكالة المغرب العربي خبرا نشرناه في الرأي العام يوم 18، وقد ورد فيه أن التهم الموجهة للبصري واليوسفي هي كما يلي:
1 ـ تهجمات على مقام صاحب الجلالة المعاقب عليها طبقا للفصل 14 من قانون الصحافة.
2 ـ التحريض على ارتكاب جرائم ضد أمن الدولة المعاقب عليها طبقا للمادة 39 من نفس القانون.
3 ـ القيام بأعمال من شأنها أن تخل بالأمن العام.
4 ـ المس بسلامة الدولة».
أربع تهم غلاظ ! فعلام استند المسؤولون في توجيهها إلى الرجلين؟