الجابري : «هكذا تفادت حكومة عبد الله إبراهيم نشوب حرب أهلية بفضل حكمة محمد الخامس»
3 ـ «لوموند» الفرنسية تكشف الحقيقة
كتبت جريدة «لوموند الفرنسية» مقالة تحليلية في موضوع هذه الحوادث نشرنا ترجمتها في الرأي العام يوم 29 مارس 1960 وقد ورد فيها ما يلي: «ما زال الخلاف العنيف بين من يؤيدون حكومة عبد الله إبراهيم ومن لا يساندونها مسترسلا. لقد انفجرت الأزمة التي كانت خامدة منذ عدة شهور إلا أنها لم تتخذ صبغة حرب أهلية كما كان البعض ينتظر. هذا وقد استطاعت حكمة عاهل المغرب أن تنقذ البلاد من شرها.
والصراع الذي يقوم، من جهة بين شخصيتين مهمتين في الحكومة وهما عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد معززين في عملهما بالعمال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبين القوى المتجمعة حول الأمير مولاي الحسن التي تريد أن تضع مكان الحكومة الحالية حكومة عازمة على أن تطبق باسم السلطان سلطة إجبارية مستبدة. إن هذا الصراع يتضخم يوما بعد يوم، وقد ظهرت حادثتان بلغتا من الخطورة كل مبلغ، واحدة في الجبال وأخرى في صفوف العمال. فانفجار هاتين الحادثتين هو الذي جعل المغرب يعتبر في مأزق حرج خطير. والانشقاق المتولد في الأطلس جنوب خزان بين الوديان والذي يترأسه قائد بني ملال، هذا الانشقاق ينتشر يوما بعد يوم بين القرى الجبلية جنوب مدينة مراكش وشرقها، وهو لا يتصف بما اتصف به خرق الطاعة الذي قام به عدي أوبيهي بتافيلالت سنة 1957 ثم أمزيان بالريف سنة 1958. فالذين يقومون بهذه الثورة هم رجال شاركوا سنة 1954 و1955 في النهضة الثورية التي انبثقت من البيضاء وتأججت نارا حامية في الاستعمار وأعوانه».
ثم ذكَّرت جريدة لوموند بالخلاف الذي نشب بين الهلال الأسود والمنظمة السرية في أوائل الاستقلال و«كيف استغل السيد الغزاوي (مدير الأمن الوطني آنذاك) هذه الخلافات لتحطيم تلك المنظمات وإثارة بعضها على بعض». ثم أضافت: «إن الذين يقومون بالعصيان اليوم ينتمون إلى حزب يعطف على الرئيس عبد الله إبراهيم ونائبه عبد الرحيم بوعبيد». ثم أشار تعليق لوموند إلى كون المعارضة المتمثلة يومئذ في حزب الاستقلال «قد استغلت هذا الحادث لتشكل نقابة معارضة للاتحاد المغربي للشغل الذي هو السند الأساسي للحكومة الحالية. فكان جواب الاتحاد المغربي للشغل على ذلك هو القيام بإضراب شامل (25 مارس 1960) يعطي الحجة القوية على أن الحركة النقابية الجديدة إنما هي زيف وكذب، وأن الحركة العمالية إنما هي بين يدي الاتحاد المغربي للشغل».
ويضيف تعليق لوموند الذي ترجمناه ونشرناه في الرأي العام موضحا: «وإثر هذا الإضراب ألقي القبض على الذين قاموا بحملة الإضراب العام دون أن يكون في استطاعة الحكومة مواجهة ذلك، مما جعل الغموض والالتباس والبلبلة في الحكم تبلغ قمتها العليا. إن تحكيم عاهل المغرب في الحالة السياسية الراهنة أصبح ضروريا، وذلك نظرا لتزايد القلق المسيطر في الجبال وما تمخض عنه الإضراب الذي قام به الاتحاد المغربي للشغل يوم الجمعة، إن ما كان يظنه أعداء الحكومة كمسألة سهلة، أي إعادة الأشياء إلى مجراها الأول (قبل تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم)، يكاد ينتج عنه معارك قوية تصبح صراعا عنيفا في البلاد كلها».
ربما يتساءل القارئ عن موقف عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد إزاء هذه الأحداث التي كانت تضع وجودهما في الحكومة في حرج شديد! فالحزب الذي يساندهما، وهو حزبهما، وهم من قادته، يتعرض مسيروه وأطره وصحافته للقمع، لا لشيء إلا لأن الحزب ورجاله يساندون برنامج هذه الحكومة!
الواقع أن الهدف الحقيقي كان إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، وهذا كان شيئا معروفا، ومقالات الصحف الفرنسية وتحليلاتها وعلى رأسها جريدة لوموند كانت تبرز ذلك كما رأينا أعلاه. ولذلك فالأمر كان يتعلق بمعركة من أجل إقرار اختيارات تحريرية لاستكمال استقلال المغرب والجميع كان يتصرف على هذا الأساس!
4 ـ الدفع نحو الانفراج.. وسقوط تهمة التآمر على ولي العهد
إذن، لم تمر سوى أيام معدودة على الأزمة التي اصطنعت والتي أعطي لها عنوان «محاولة اغتيال ولي العهد»، حتى بدأت مخاطرها تتضح متجاوزة حسابات صانعيها مما جعلهم يشعرون بالمصير الذي يهدد البلاد من جراء أكاذيبهم ومؤامراتهم. وهكذا بدأ نوع من التراجع، وحصلت اتصالات مع الملك الراحل بهدف التنبيه إلى عدم جدية ما يدعيه الذين اختلقوا الأزمة وإلى خطورة الأمر على البلاد ومستقبلها. وكانت النتيجة أن أخذ الملك محمد الخامس يحقق في الأمر بنفسه فاستدعى عددا ممن يثق فيهم وسألهم رأيهم، ثم استدعى وزير العدل وطرح عليه السؤال التالي: «هل صحيح أنه كانت هناك مؤامرة على «سمية سيدي»، (يعني مولاي الحسن ولي العهد)؟ فأجاب الوزير بالنفي. وحينها قرر الملك الراحل وضع حد للقضية.
وبناء على هذه المعطيات الجديدة، وتشجيعا لهذا الاتجاه، ومن أجل الدفع بالأمور نحو الانفراج، كتبت التعليق التالي في عدد فاتح أبريل 1960 في ركن «بالعربي الفصيح» من الرأي العام:
يقول التعليق:
«هناك ظاهرة بدت هذه الأيام على مسرح حياتنا العامة وعلى مسرح الأحداث الجارية في مغرب اليوم. وهي أن الكل متأسف على ما حدث، وأن الكل أصبح يخشى المستقبل المجهول الذي ينتظر بلادنا إذا هي بقيت مسرحا تمثل عليه المآسي العديدة المختلفة التي شهدها الناس في البلاد طوال الشهور الثلاثة أو الأربعة الماضية. الكل متأسف مما حدث، والكل يخشى ما قد يحدث إذا ما استمرت على النمط الذي سارت عليه، لأن هذه الأحداث الجارية الآن ستسفر عما نحن لسنا في حاجة إليه ولو على الأقل في الظروف الراهنة التي يواجه المغرب فيها عدة مشاكل مع الاستعمار وجها لوجه. وإنه وإن كان للاستعمار ومكائده يد في ما حدث ويحدث فإن نداء الضمير لمن له ضمير يقضي بأن يعملوا على تدارك الأخطاء التي اقترفوها وهم يدركون الآن المصير المحتوم الذي ينتظرهم، المصير المحتوم الذي دفع الشعب دفعا إلى صنعه بسبب مناوراتهم ومؤامراتهم. وإذا كانت المعركة التي يخوضها الشعب معركة طويلة لأنها معركة شعب لا معركة شخص أو أشخاص، وإذا كانت نتائج هذه المعركة معروفة سلفا لكل من له صلة بالتاريخ، إذا كان الأمر هكذا، فإن من مصلحة الذين في قلوبهم مرض أن يعملوا على إزالة ذلك المرض، وإن من مصلحة الذين في قلوبهم عجز أن يتداركوا هذا العجز، وإن من مصلحة الذين في عقولهم غرور أن يعملوا على كبت هذا الغزور إلى الأبد، إذا هم أرادوا الخير لهم ولبلادهم. إن الشعب يخوض معركة، وهي معركة فرضت عليه فرضا ومستعد للمضي فيها إلى النهاية، وهو فعلا سيمضي فيها إلى النهاية بكل قوة وحزم لأنه يعرف نهايتها ويعرف أنه منتصر لا محالة على خصومه. ولكن مهما كان الأمر فإن اعتقال المقاومين وتعذيبهم، وإن صعود بعض الرجال إلى الجبال واعتصامهم بها، وإن السخط الذي يمكن أن ينتشر أكثر فأكثر في الأوساط الشعبية، كل تلك أمور أعتقد شخصيا أننا في غنى عنها، وأن مشكلة المغرب لن تحل بها، وإنما تحل بالانسجام التام بين الحاكمين والمحكومين والثقة المتبادلة بين المسؤولين وغير المسؤولين، بالطمأنينة التي ينعم بها من في كراسي الحكم كبيرها وصغيرها ومن في المدن والمداشر والجبال.
هذا هو الذي يحل مشكلة المغرب. وهذا ما لم يفت الأوان بعد لتحقيقه بكيفية عادية طبيعية. ومن مصلحتنا جميعا أن نحققه بهذه الكيفية العادية الطبيعية قبل أن يحقق نفسه بكيفية أو أخرى تبعا لمنطق التاريخ المحتوم» (ابن البلد).
هل سارت الأمور فعلا في هذا الاتجاه؟
نعم، ولا!
نعم، لأن الملك الراحل محمد الخامس كان قد قرر فعلا تصفية ملف الأزمة المصطنعة التي اختلقت تحت غطاء «المؤامرة على ولي العهد». وهكذا اغتنم فرصة عيد الأضحى الموافق لـ 3 يونيو 1960 فأطلق سراح جل المقاومين الذين اتهموا بتدبير «المؤامرة» المزعومة. والذين أطلق سراحهم في ذلك اليوم هم السادة: محمد البصري، محمد بنسعيد، عبد الرحمن الزيات، سعيد بونعيلات، التهامي نعمان، بوشعيب الدكالي، مبارك الوزاني، محمد السكوري، الجيلالي خيضر، محمد العلوي، الخنوري محمد، عمربنسعيد، الروندي محمد، النجاري محمد، بوشاما بوعزة، بوشعيب الناصري، الذهبي محمد، محمد بلمين، الرامي بلعيد. وقبل ذلك كان قد أطلق سراح محمد منصور، والبوعزاوي والهاشمي المتوكل، وبويزة محمد، وعزوز، وإدريس المودن.