الجابري: «هكذا أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم بمجرد ظهور نتائج انتخابات الغرف التجارية»
فالديمقراطية من الناحية الشكلية كانت موجودة إلى حد ما ولم يكن ينقصنا إلا الناحية العملية، أي تحديد الاختصاصات والمسؤوليات. وهذا راجع بطبيعة الحال إلى عدم وجود دستور في البلاد. وقد كان يمكن أن تسير الأمور سيرها الطبيعي لو وضع للبلاد دستور وفق إرادة الشعب. ولكن بدلا من السير في الديمقراطية وبدلا من تحقيق الناحية العملية منها، بدلا من ذلك رجعت الأمور إلى الوراء: فالمجلس الاستشاري الوطني أقفلت أبوابه، والاستشارات مع الأحزاب انقطعت، وأقيل رئيس الحكومة السياسي ليحتل رئيس الدولة مكانه.
ليس هذا وحسب، بل لقد ظهرت خطة القضاء على الديمقراطية حتى على الصعيد المحلي والإقليمي. وهكذا عزل عدد من القواد والباشاوات والعمال لينصب الحكم الفردي مكانهم قوادا وباشاوات وعمالا يطمئن إليهم أكثر من غيرهم. وهكذا بدأنا نشاهد بعض الذين لهم سوابق ضد الوطن والعرش يعودون ليتقلدوا مناصب في الدولة ربما هي أحسن وأرفع من المناصب التي كانوا يتقلدونها أيام الحماية. وهكذا بدأنا نشاهد أيضا تنفيذ انقلاب عسكري سري, حيث عين عدد من العسكريين على رأس العمالات، وحتى هؤلاء العسكريين هم فقط ممن يطمئن إليه الحكم الفردي.
لقد وعد محمد الخامس، عند تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم، بإجراء الانتخابات البلدية والقروية في أقرب وقت كخطوة أولى لإجراء الانتخابات العامة، وأعلن أن حكومة عبد الله إبراهيم مكلفة بإعداد هذه الانتخابات. وأعدت هذه الحكومة الانتخابات الجماعية كأحسن ما يكون الإعداد. ورغم أن الانتخابات كانت على الصعيد المحلي فقط فإن الدولة لم تحدد اختصاصات المجالس المنتخبة إلا بعد أن ظهرت نتيجة الانتخابات. بل إن حكومة عبد الله إبراهيم التي كانت تتجاوب مع رغبات الشعب في التحرر والتحرير، قد أقيلت بمجرد ظهور نتائج انتخابات الغرف التجارية، وهي نتائج لم ترض الدولة بطبيعة الحال. وهكذا أقيلت الحكومة التي كانت تتمتع بالتأييد الجماهيري والتي جاءت انتخابات الغرف التجارية لتؤكد هذا التأييد، أقيلت قبل إجراء الانتخابات البلدية. ولكن هذه الإقالة لم تؤثر في اتجاه الرأي العام الواعي. وهكذا كانت نتائجها في صالح اتجاه الحكومة المقالة.
قلنا إن ظهير اختصاصات المجالس البلدية لم يوضع إلا بعد ظهور نتائج الانتخابات. وعند ظهورها جاء الظهير ليضيق الخناق على ممثلي الشعب تضييقا. ولذلك طالب بإلغائه جميع ممثلي الشعب، سواء كانوا من هذا الجانب, أو ذاك. وأمام ضغط الرأي العام بتوسيع اختصاصات المجالس البلدية وأثناء الحملة الدعائية لكسب عطف الجماهير، بعد وفاة محمد الخامس، أعلن الملك الحالي أنه سيصدر أمره بتوسيع اختصاصات المجالس الجماعية، ولكن هذا الوعد كان ولا يزال كغيره من الوعود الفارغة، وعود مناسبات. فقد مر أكثر من عام على هذا الوعد، ولحد الآن لم يتحقق منه أي شيء. أما عن الدستور والانتخابات العامة فإن الفضيحة أكثر من ذلك.
لقد وعد محمد الخامس بأن لا تنتهي سنة 1962 حتى تكون البلاد ممتعة بدستور ومؤسسات تمثيلية، ولكن في الوقت الذي كانت تطالب فيه الجماهير بمجلس تأسيسي منتخب، عمدت الدولة إلى تحدي إرادة الجماهير فعينت أفرادا وسمتهم «أعضاء مجلس الدستور». ولكن هذا التحدي قد فشل مثل جميع التحديات التي يقام بها ضد جماهير الشعب. فقد انفجر مجلس الدستور ومازالت فضيحة هذا المجلس تفوح في سماء الرباط رغم الهواء البارد المنعش الذي يزودها به المحيط الأطلسي. وأكد الملك الحسن الثاني وعد محمد الخامس في أن لا تنتهي سنة 1962 إلا وتكون البلاد ممتعة بدستور ومؤسسات تمثيلية. ولكن ها نحن في منتصف سنة 1962، فلا انتخابات ولا دستور ولا حتى مجرد إعداد لهما، بل كل ما هناك هو أن الدولة تحاول أن تضلل الناس بما تذيعه عما تسميه «الديمقراطية الحق» مقللة من أهمية الانتخابات، مستشهدة بحرية التعبير على وجود الديمقراطية في المغرب.
ونحن نعلم أن أي أحد في الدنيا اليوم لا يستطيع أن يهاجم الديمقراطية صراحة لأنه إن فعل سيضحك الناس عليه. ولكن هناك أساليب كثيرة للطعن في الديمقراطية ومحاولة تشكيك الجماهير فيها. ومن هذه الأساليب الكلام عن تجارب الدول التي كانت لها دساتير وبرلمانات والتي كانت تعيش في جو استبدادي. ومنها أن الخبز يجب أن يسبق الانتخاب، وأن الديمقراطية العملية التي هي حرية التعبير وحرية تشكيل الأحزاب، أحسن من الديمقراطية «الشكلية» (= الانتخابات، الدستور)، إلى غير ذلك من الادعاءات التي سنتصدى لها بالكشف والرد عنها في مقال مقبل».
3 ـ من وضع دستور مصر قبل الثورة؟
والمقال الثالث نشر يوم 24 أبريل 1962، تحت عنوانين هما: «قبل أن ننتقد دستور مصر قبل الثورة يجب أن نسأل: من وضع هذا الدستور؟». «إنه إذا كانت في المغرب حرية في التعبير فهي تلك التي يسب بها معلق الإذاعة الشعب وممثليه الحقيقيين».
يقول المقال:
«تحدثنا في مقال سابق عن الواقع المغربي من حيث هو واقع يتحكم فيه الحكم الفردي المباشر، وقلنا إن هذا الحكم الفردي يوغل في فرديته يوما بعد يوم، وأوضحنا كيف أن بلادنا كانت تتمتع غداة الاستقلال ببعض شكليات الديمقراطية كالمجلس الاستشاري والاستشارات مع الأحزاب. وانتهينا في الأخير إلى ذكر بعض الاعتراضات الوهمية التي يحاول أن يبني عليها الحاكمون اليوم حملتهم التضليلية ضد الديمقراطية وشكلياتها. فما هي هذه الاعتراضات الوهمية؟ إنهم يقولون إن انتخابات المجالس النيابية والدستور أمور ليست أساسية في الديمقراطية، وإن هناك بلدانا تتمتع بهذه الشكليات في حين كانت تعيش في ظل الاستبداد والإقطاع مع وجود الدستور والبرلمان. ويضربون مثلا على ذلك بعدة بلدان منها مصر قبل الثورة. فمصر قبل الثورة كان لها دستور وكان لها برلمان وكانت تجرى فيها الانتخابات, ولكن مع ذلك كان الشعب المصري يعيش في جو من الحرمان، وكان هناك المستبدون بالحكم. كما أنه لم تكن هناك حرية للصحافة، بل إن الصحافة التي كانت موجودة إنما هي صحافة تملق واستعطاف واسترضاء للحاكمين.
هذا ما يقوله الحكام المغاربة اليوم بواسطة إذاعة الدولة. وواضح أن تقديم هذا المثال للجمهور يقصد منه تشكيك المستمعين في الديمقراطية وفي الدستور وفي المؤسسات التمثيلية والنيابية. وواضح كذلك أن الذين يأتون بهذا المثال إنما يريدون أن يبرهنوا على أن الوضعية في المغرب، وهو بدون دستور ولا برلمان، هي أحسن بكثير من الوضعية التي كانت تعيش عليها مصر مع وجود الدستور والبرلمان فيها!
صحيح تماما ما يقولونه اليوم بشأن مصر قبل الثورة. فمصر قبل الثورة كانت تعيش في بؤس وفي حرمان وفي ظل الإقطاع والاستبداد رغم وجود الدستور والبرلمان. هذا صحيح ولكن يجب أن نتساءل: من وضع دستور مصر أو بالأحرى من وضع دساتير مصر؟
لقد كان الدستور المصري الأول دستورا ممنوحا. ومعنى ذلك أن الملك فاروق هو الذي وضع هذا الدستور، وهو الذي منحه للشعب. وإذا كان فاروق لم يضعه بنفسه وبـ «علمه: فقد وضعته لجنة عينها فاروق نفسه، وهذا ما كان يريد الحكام المغاربة فعله هنا في المغرب عندما عينوا مجلسا للدستور. وواضح أن الدستور الذي يمنحه الملك أو يعين من يضعه، إنما هو دستور لا يراعي مصلحة الشعب, بل مصلحة الحكام ومن يسير في ركابهم من إقطاعيين وانتهازيين وسماسرة. ومثل هذا الدستور شيء خطير على البلاد لأنه يضفي صبغة المشروعية على الأوضاع الفاسدة وعلى الظلم. فباسم الدستور الذي وضعه ملك مصر كان الوطنيون يحاكمون، وباسم الدستور الذي وضعه الملك فاروق كانت الحرية تخنق في المهد. وباسم الدستور أو مع وجوده على الأقل كانت حفنة من الإقطاعيين والرأسماليين يستغلون جماهير الشعب الضعيفة المريضة الجاهلة.
إن الدستور كما قلنا هو جملة قوانين، وهذه القوانين تكون في صالح واضعيها دائما. فإذا وضعها الملك أو من يعينهم الملك جاءت هذه القوانين في صالح الملك، وفي صالح زبانيته المتملقين، وإذا وضعها ممثلو الشعب جاءت في صالح الشعب وفي خدمة الجماهير الشعبية.
والاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان واعيا كل الوعي لهذه الحقيقة عندما طالب بالدستور. فهو لم يطالب بالدستور فقط، بل طالب بإجراء انتخابات عامة قصد انتخاب مجلس تأسيسي تكون مهمته وضع الدستور، فالاتحاد الوطني عندما نادى بضرورة الدستور نادى بأن الشعب، أعني ممثليه الحقيقيين، هم الذين يجب أن يضعوا الدستور للبلاد. وهكذا رفض الاتحاد الوطني كل شكل آخر من أشكال وضع الدستور. إنه رفض دستور المجلس المعين، ورفض الدستور الذي تضعه اللجان، ورفض دستور الاستفتاء, لأن كل هذه الأشكال إنما يقصد بها التحايل والمراوغة والتناور ليكون الدستور لصالح الوضع القائم لا في صالح الجماهير. إن الديمقراطية تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. وطريقة الحكم تحددها قوانين. وقوانين الحكم يجب أن يضعها الشعب بنفسه, لأنه هو الذي له الحق في حكم نفسه بنفسه».