الجابري: «هكذا أجرى الحسن الثاني في يونيو 1961 تعديلا على الحكومة بإضافة زعماء الأحزاب السياسية باستثناء الاتحاد»
رابعا: تركيز حكم فردي مطلق يدير دفته كديرة!
لم يكن لمذكرة الاتحاد ما بعدها، ولم تنفع مقالات «التحرير» في تغيير الاتجاه نحو الحكم الفردي المطلق الذي كان ينزلق المغرب إليه بسرعة. لقد استمرت الحكومة التي كان ولي العهد يرأسها نيابة عن والده، فأصبحت هي نفسها الحكومة التي يرأسها جلالة الملك الحسن الثاني. وعندما تبين بالتجربة تناقض مهمة الوزير الأول مع مهمة الملك، عين جلالته السيد أحمد رضا كديرة (مدير ديوان ولي العهد سابقا ووزير الفلاحة) مديرا عاما للديوان الملكي، بعد أن كان عينه بعد وفاة البكاي وزيرا للداخلية. وفي يوم 7 يونيو 1961، أجرى جلالة الملك الحسن الثاني تعديلا على حكومته فأضاف إلى الحكومة زعماء الأحزاب السياسية باستثناء الاتحاد. وهكذا عين علال الفاسي وزيرا للشؤون الإسلامية، ومحمد بلحسن الوزاني وزيرا للدولة، والمحجوبي أحرضان وزيرا للدفاع الوطني وعبد الكريم الخطيب وزيرا للشؤون الإفريقية ومحمد الرشيد ملين وزيرا للتعليم.
لقد أصبح كديرة، الذي كان الملك قد أسند إليه مهمة توقيع المراسيم باسم رئيس الحكومة الملك، «الحاكم بأمره» في البلاد، لقد أصبح، في آن واحد: رئيس الحكومة القانوني، ومديرا عاما للديوان الملكي، ومديرا لديوان رئيس الحكومة الملك، ووزيرا للفلاحة، ووزيرا للدفاع، ووزيرا للداخلية، ووزيرا للخارجية بالنيابة. وهكذا كان كديرة يشخص «الحكم الفردي» في المغرب. وبهذا يكون الملك قد اختار الحكم الفردي على الحكم الديمقراطي الذي ألح عليه الاتحاد في مذكرته. ومن يومها صار الاتحاد يستعمل في بياناته وفي جريدة «التحرير» عبارة «الحكم الفردي» وعبارة «الحكم المطلق» كوصف لواقع قائم لم يكن يجادل فيه أحد.
ثم تسربت أخبار تفيد أن هذه الحكومة ستكلف بإعداد دستور ممنوح، وصدر ما سمي «القانون الأساسي» الذي قيل عنه إنه سيقوم مقام الدستور إلى أن يتم إعداده هذا الأخير، فكان لا بد من التصدي لهذه الاختيارات اللاديمقراطية… وهكذا عقد المجلس الوطني للاتحاد دورة يومي 17 و18 يونيو 1961، وأصدر بلاغا جاء فيه على الخصوص ما يلي:
«إن المجلس الوطني يقرر:
1 ـ زيادة على عمله كمعبر عن مطامح الجماهير الشعبية القيام بتركيز نشاطه على تعبئة وقيادة الجماهير تحت شعار رفض الحكم الفردي واسترجاع السيادة للشعب، لأن الشعب هو مصدر السلطات.
2ـ إعطاء الصلاحية للكتابة العامة لتحديد خطة وميادين العمل الذي ستقوم به الجماهير على الصعيد المحلي والوطني في شكل مبادرات مضبوطة بهدف انتزاع حقوقها».
وعلى إثر هذا البيان شنت صحافة كديرة وأحمد العلوي وكذا الإذاعة حملة على الاتحاد فكان لا بد من الرد عليها، وقد كتبنا عدة تعاليق ومقالات سجالية في هذا الموضوع لا يتسع المجال لإيرادها كاملة، وسنورد نماذج أخرى في الموضوع نفسه بعد قليل.
وتدخل سنة 1962 التي كان قد قيل عنها إنها سنة الدستور والمؤسسات التمثيلية. فالوعد الذي قطعه المرحوم محمد الخامس على نفسه يوم زج به في تلك التجربة المشؤومة، تجربة الحكم الفردي، هذا الوعد ينص على أن بلادنا ستتمتع بمؤسسات تمثيلية ودستور سنة 1962. وقد أكد المرحوم الحسن الثاني هذا الوعد في خطب وتصريحات عديدة، حيث أعلن أنه لن تنتهي سنة 1962 حتى تكون البلاد متوفرة على دستور ومؤسسات تمثيلية… تدخل السنة الموعودة، إذن، بدون تباشير لتحقيق الوعد، بل إن قناة تلفزية أوربية سألت جلالة الملك الحسن الثاني عن السبب في تأخير إقرار الديمقراطية في المغرب، كما تطالب بذلك المعارضة، فنسبت إليه جوابا جاء فيه «إن المعارضة لم تعبر عن رأيها أو لم تحسن التعبير عنه»! وكتعليق على هذا الجواب، ولوضع الأمور في نصابها، قررت الكتابة العامة للاتحاد نشر نص المذكرة التي كانت قد قدمتها لجلالته إثر الاستشارات التي قام بها عند وفاة المرحوم محمد الخامس، والتي أتينا بنصها أعلاه. وقد نشرت فعلا في «التحرير» بتاريخ فبراير 1962.
خامسا: بمناسبة مرور سنة على الحكم الفردي
وتحين ذكرى مرور سنة على تجربة الحكم الفردي كاختيار واع ومتعمد، فكان لا بد من استعراض حصيلة تلك السنة في مجال الديمقراطية. فكان المقال التالي الذي نشرناه يوم 2 مارس 1962.
يقول المقال:
«ها نحن بعد أزيد من سنة من وفاة محمد الخامس نقف على أبواب السنة السابعة من استقلال المغرب، ونلقي نظرة على حاضرنا فلا نجد فيه ما يشجعنا ويعيد الثقة إلى نفوسنا, ثم نعود بذاكرتنا إلى الوراء، إلى السنين الماضية، فنتأسف للفرص الضائعة وللأوقات والمجهودات التي ذهبت سدى. ثم بعد كل هذا لا نجرؤ أن ننظر إلى المستقبل مخافة أن نصاب بخيبة أكبر، لأن المسؤولين عن شؤوننا العامة لم يهيئوا ذلك المستقبل ولم يعملوا شيئا من شأنه أن يلبي رغبات الشعب بكيفية جدية تبعث على الاطمئنان والثقة.
ومع ذلك فقد كانت الطريق واضحة أمامنا منذ بداية الاستقلال، وكان في إمكاننا أن نسير أشواطا ونقطع مراحل هامة في طريقنا نحو التقدم ونحقق مكاسب ومنجزات، ونجد أنفسنا اليوم في وسط الطريق وقلبنا مفعم بالإيمان والحماس، لا نتعثر ولا نتردد ولا نبذر الأوقات، وإنما نسير في جادة واضحة نحو الأهداف المرسومة. إذن: فمن الذي عاقنا عن السير منذ اليوم الأول في هذه الطريق؟
قد نجد بعض العذر إذا قلنا إن السنوات الأولى من الاستقلال كانت سنوات تجربة وتمرين واطلاع وممارسة لشؤون الدولة. وكنا لا نبدي أي ملاحظة أو انتقاد لو أن التجارب انتهت في أجل معقول، ولو أنها أتت أكلها وأنتجت ثمرتها المرجوة فاستفاد المسؤولون من درسها وانتهجوا السياسة الرشيدة الضرورية. على أنه ليس في نيتنا هنا أن نحلل جميع جوانب الخلل والتدهور والانحلال. فالذي يهمنا هو أن نتساءل عن نشوء الحكم الفردي ونحلل على ضوء التجربة جانبا من جوانبه، وهو المتعلق بعلاقته مع الهيئات المنتخبة طيلة ما يقرب من سنتين، لأن هذه العلاقات في سائر مظاهرها تشكل مقياسا على النزعة «الديمقراطية» الحقيقية التي يصطبغ بها الحكم الفردي منذ ماي 1960 (إقالة حكومة عبد الله إبراهيم).
ـ كيف تأسست أول حكومة ملكية؟
وقبل كل شيء كيف نشأ الحكم الفردي؟ وما الأسباب السياسية التي دعت إلى ذلك؟ هل كان الملك محمد الخامس في اضطرار إليه, أم أنه اتخذ قراره تحت تأثيرات شوهت له الحقيقة؟
لنرجع إلى الوثائق الرسمية لنعيد الذاكرة لمن فقدها. لقد تأسست حكومة عبد الله إبراهيم بتاريخ 24 ديسمبر 1958 وفي حفلة التنصيب ألقى جلالة محمد الخامس خطابا جاء فيه:
«وقد اقتضى نظرنا أن نؤلف الحكومة الجديدة وعهدنا إلى السيد عبد الله إبراهيم ليشكلها بصفة شخصية لتقوم في مدة معينة بالمهام الوزارية وتسيير شؤون الدولة والسهر على تحقيق الأهداف التالية: 1ـ متابعة تطبيق البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية. 2 اتخاذ التدابير اللازمة لتشغيل أكثر ما يمكن من العمال. 3 ـ مواصلة تطبيق العهد الملكي بإجراء الانتخابات البلدية والقروية قبل نهاية سنة 1959، هذه الانتخابات التي ستفصح عن اتجاهات الرأي العام وتياراته اللازمة معرفتها لتشكيل حكومة تمثيلية».
يتبين من التصريح الملكي بكل بوضوح أن المهمة الأساسية للحكومة التي كان يرأسها عبد الله إبراهيم هي تهييء الانتخابات والسهر عليها حتى تفصح هذه الانتخابات عن مختلف التيارات الموجودة في البلاد، وحتى يتأتى تشكيل حكومة تمثيلية على أساس نتائج هذه الانتخابات. لكن الأحداث اتبعت تطورا يتناقض مع المقرر أعلاه، فأقيلت الحكومة قبل أن تجري الانتخابات وقبل أن تعرف نتائجها، ثم بدلا من أن تتكون حكومة تمثيلية على أساس نتائج الانتخابات وقع العدول عن هذا الرأي وتأسس نظام للحكم الفردي بدون مبرر لا من حيث الشكل ولا من حيث العمق.
وحقيقة الأمر التي يعلمها كل واحد أن عدة شخصيات سياسية كانت تخشى هذه الانتخابات الشعبية وتخشى نتائجها، فعملت على أن تؤثر على الملك المرحوم محمد الخامس واستطاعت هكذا أن تقنعه باتخاذ قرار مناف كل النفي لالتزامه بتشكيل حكومة تمثيلية. وإذا كانت الشهور الأولى كافية لبيان فشل تلك التجربة التي بدأت في ماي 1960 ـ وهذا ما انتهى إليه المغفور له محمد الخامس نفسه ـ فقد اتضح له بعد مرور الأسابيع الأولى أن الأمور أصبحت لا تسير على ما يرام في الدولة، وأن الاستمرار في هذه الطريق قد يضر بالمستقبل، فاقتنع الأخير في أن التجربة التي أقدم عليها تحت تأثيرات معروفة، وخاصة من ولي العهد سابقا، تجربة فاشلة لا ينتظر منها أي خير للبلاد. ولذلك قر عزمه على أن يضع حدا لها، وصرح بذلك في أحد المجالس الوزارية. ومن المحقق أنه قرر قبل وفاته بأسبوعين أن يغير سياسته وخطته بمجرد ما يقوم من العملية الجراحية التي كان مقدما عليها. والسياسة الجديدة التي قرر أن يسلكها هي الرجوع إلى تأسيس حكومة تمثيلية تحدد تاريخ الانتخابات من أجل إقامة نظام دستوري. وعلى كل فإن محمد الخامس أصبح يرى نفسه في وضعية لا يمكن أن تستمر، وقد اقتنع أن هناك تناقضا تاما بين موقفه كملك وموقفه كرئيس حكومة يسير الشؤون بنفسه مباشرة. ولكن الأقدار لم تمهله حتى يخرج من تجربته بالفائدة المنتظرة.