الجابري: «هذه هي المقالة التي حجزت من أجلها «التحرير» وحوكم بسببها مديرها ورئيس تحريرها»
لم يستسلم المقاومون، وحاشى الله أن يستسلم المقاوم، فرفعوا أصواتهم مطالبين بحقوقهم، وصمتت الآذان وأوصدت الأبواب. وقرروا أن يقرعوا باب القصر الملكي العامر ليطلبوا مباشرة من صاحب الجلالة أن ينصفهم. لكن رد الفعل هذه المرة كان أقبح من السكوت ومن الوعود الفارغة المزيفة. نهار واحد، نهار الثلاثاء (فاتح ديسمبر 1959 كونوا وفدا مركبا من 48 من المعطوبين بنسائهم وأطفالهم ونساء الشهداء وتوجهوا إلى القصر الملكي العامر طالبين المثول بين يدي صاحب الجلالة ليلفتوا نظره الشريف إلى الحالة المزرية التي يوجد عليها المقاومون بنسائهم وأطفالهم وأطفال الشهداء. وقابلوا مدير التشريفات وأبلغوه رجاءهم في مقابلة صاحب الجلالة فكان جواب السيد مدير التشريفات غير مشرف، إذ استحضر عددا من رجال الشرطة وطلب منهم طرد الجماعة، فحاولت الشرطة أن تطردهم ولكن المقاومين صمدوا في وجه المحاولة الجائرة وألحوا على مقابلة صاحب الجلالة. وهنا تدخل موظف كبير لدى الأعتاب الشريفة وأمرهم كما يؤمر الكلب بالخروج، ولم ينفع الأمر، فهددهم ولم ينفع التهديد، فلجأ أحد الموظفين إلى المداهنة والمراوغة ووعدهم بأنه سيحدد لهم موعدا لمقابلة صاحب الجلالة في الساعة الخامسة والنصف. وفي الساعة المحددة حضروا إلى مكتب مدير الديوان الملكي فكان جواب السيد مدير الديوان الملكي بأن تحديد الموعد لا يدخل في اختصاصاته. فتوجهوا مرة أخرى إلى مكتب مدير التشريفات فطلب منهم أن يعودوا في يوم آخر. وفي يوم الأربعاء الساعة السابعة صباحا وصل الوفد إلى المكان الذي قيل إن صاحب الجلالة سيمر منه. وهناك رجال الشرطة أرغموهم على مغادرة المكان. ورأى أعضاء الوفد أن يكونوا وفدا مصغرا من خمسة رجال وخمس نساء لمقابلة مدير التشريفات. لكن السيد مدير التشريفات لم يستقبلهم واكتفى بإحالتهم على كاتب من ديوانه. بقي وفد المقاومين ينتظر حتى الساعة الخامسة مساء أي طيلة 11 ساعة. وأمام إصرار الوفد على مقابلة جلالة الملك أعطيت الأوامر للحرس الملكي والشرطة بطرد الجماعة. فطردوا حتى أخرجوا من ساحة القصر، وطردوا حتى أبعدوا من القصر، وطردوا حتى أبعدوا من الرباط بمسافة 20 كيلومترا.
تلك هي قصة المقاومين وتلك هي المعاملة التي يعاملون بها والأحداث ناطقة لا تحتاج إلى تعليق».
هذه هي المقالة التي حجزت من أجلها التحرير وسيحاكم بسببه مديرها ورئيس تحريرها، بتهم غليظة بعيدة جدا عن المقالة وأسلوبها ومضمونها. مما لا يدع مجالا للشك أن المقالة لم تكن سوى ذريعة للبدء في تنفيذ المؤامرة المبيتة ضد الاتحاد.
كان هناك شك في أن تكون لمحرر المقالة علاقات مشبوهة مع جهات في الدولة والأمن، ولكني أعتقد أن هذه المقالة لم تكن مما أملي عليه، بل لقد كتبها وهو يستمع للمقاومين الذين جاؤوا إلى التحرير يحكون ما حصل لهم. فكتب ما كتب مازجا بين الخبر والتعليق كما هو واضح.
حجز العدد، وكان مؤرخا بـ 4 كانون الأول / ديسمبر 1959 وفي مساء اليوم نفسه أصدر الديوان الملكي بلاغا يرد فيه على المقالة جاء فيه: «نشرت جريدة التحرير في الصفحة الأولى يوم 4 دجنبر ـ كانون الأول / ديسمبر 1959 مقالا تحت عنوان «طردوا الاستعمار بالأمس فأصبحوا اليوم مطاردين» ضمنته أخبارا كاذبة. وخلافا لما جاء في المقال فالحقيقة هي التالية: خلال نهار الثلاثاء فاتح دجنبر وردت على المشور السعيد جماعة من النساء والرجال (لاحظ: هكذا دون صفة المقاومين!) وقصدت التشريفات الملكية طالبة المثول بين يدي صاحب الجلالة الملك أعزه الله للتحدث إليه في أمر يخصها. فطلب منها حسب العادة أن تبين الغرض الذي جاءت من أجله إلى القصر، والموضوع الذي تريد إثارته مع جنابه الشريف، ولكنها أبت إلا أن تمثل بين يديه في الحين ورفضت الإفصاح عن الغرض الذي جاءت من أجله وتركت التشريفات الملكية، وقصدت الديوان الملكي حيث استقبلها مديره وأبدى لها كامل استعداده ليبلغ إلى جلالة الملك كل ما تريد تلك الجماعة أن يبلغ إليه كتابيا أو شفاهيا، وأنها استمرت على رفضها تبيين الغاية من طلبها المثول بين يدي صاحب الجلالة. وفي صباح الأربعاء عادت الجماعة المذكورة إلى التشريفات الملكية وكررت الطلب، فطلب منها أن تختار ثلاثة أو أربعة من الأفراد لمقابلة صاحب الجلالة في العشية حيث إن عددها كثير. فقبلت ذلك وفي العشية جاءت الجماعة كلها بما فيها من نساء وأطفال تريد الدخول على التشريفات الملكية فطلب منها تقديم وفد ينوب عنها حسبما وقع عليه الاتفاق لكنها رفضت. ثم حاولت بغتة الدخول عنوة إلى التشريفات الملكية فلم ير الحرس بدا من صدها وإبعادها. أما الغرض الذي ذكرت جريدة التحرير أن تلك الجماعة جاءت إلى القصر من أجله فإنه لم يعلم إلا من الجريدة نفسها لأن تلك الجماعة لم تعرب عن الغاية من مجيئها سواء مع مدير الديوان الملكي أو أمام مدير التشريفات…».
واضح أن هذا الرد يختصر النازلة وأكثر من ذلك تحدث عن «جماعة» لا هوية لها، إخفاء للحقيقة وتضليلا للرأي العام. فكان ذلك مما يستوجب الرد والتوضيح.
ـ «نحن أرجعناه فكيف تمنعوننا من مقابلته»؟
استدعينا في اليوم التالي 5 كانون الأول / ديسمبر الإخوة المقاومين الذين كانوا قد حكوا قصتهم للأخ البلغيتي واستمعت إليهم من جديد، ثم كتبت المقالة التوضيحية التالية بعنوان:
«البوليس يحجز أمس جريدة التحرير في مجموع المغرب ـ تفاصيل جديدة عن قضية المعطوبين وأرامل الشهداء».
وتحت العنوان مقدمة جاء فيها: «صادرت مصالح الشرطة أمس جريدة التحرير في مجموع أنحاء المغرب، وقد جاءت المصادرة بسبب المقال الذي نشرناه في عدد أمس تحت عنوان: «طردوا الاستعمار بالأمس فأصبحوا اليوم مطاردين». واليوم نعيد نشر القصة كما حكاها لنا المواطنون المقاومون أنفسهم. لقد تأكد لدينا كما قلنا ذلك في مقال سابق أن المقاومين المذكورين جاؤوا فعلا عدة مرات إلى التشريفات الملكية وطلبوا مقابلة جلالة الملك، وتأكد أن الشرطة نقلتهم من باب التواركة حيث كانوا ينتظرون جلالة الملك لعرض مشاكلهم عليه، وتأكد أن الشرطة طاردتهم من الرباط حتى مسافة عشرين كيلومترا على طريق الرباط الدار البيضاء. نشرت الجريدة هذه الحادثة أمس وقد لخصتها وفاء لخطتها العامة. حجز الجريدة لن يردها عن السير وفق مبادئها الشعبية، حجز التحرير خرق صريح ومكشوف لقانون الحريات العامة. ستبقى هذه الجريدة في طليعة الشعب تحارب الفساد وتفضح أساليب المفسدين كلما واتتها الفرصة لذلك».
هذه مقدمة المقالة. أما المقالة نفسها فقد تحدثت عن عملية الحجز في كل أنحاء المغرب وعن إخبار الإذاعة الوطنية بذلك في نشرتها الزوالية، معللة الحجز بكون الجريدة نشرت «نبأ مكذوبا» على حد تعبير البلاغ المنسوب للديوان الملكي. كما أخبرت أن بلاغا آخر سيصدر في نفس الموضوع. ثم تواصل المقالة شرح الحادثة كما وقعت بالفعل، فتقول:
«وبالفعل أذاعت الإذاعة الوطنية في نشرتها المسائية بلاغا من الديوان الملكي يشرح قصة المقاومين التي تحدثنا عنها في عدد أمس. ويظهر من سياق الأحداث التي سردها بلاغ الديوان الملكي أن النقطة التي برزت في مقالنا صحيحة. صحيح أن الجماعة المؤلفة من مقاومين ومقاومات جاءت ثلاث مرات تريد مقابلة جلالة الملك، وصحيح أنها طوردت من قبل الحرس طبق أوامر الديوان أو التشريفات الملكية. أما الحجج التي أوردها الديوان الملكي والقائلة بأن هذه الجماعة المعنية امتنعت عن التعريف بهويتها فإن الوقائع التالية تدحضها: وهي الوقائع التي رواها لنا إخواننا المقاومون الذين زارونا أمس:
في يوم الثلاثاء الماضي على الساعة الثالثة والنصف بعد الزوال توجه خمسة رجال من المقاومين إلى التشريفات الملكية لطلب مقابلة مع جلالة الملك، وبدلا من أن يجدوا من يصغي لمطلبهم أمر مدير التشريفات الحرس بإخراجهم. وفعلا فقد أخرجتهم الحراسة، ولم ييأسوا بل توجهوا إلى الديوان الملكي. وهناك قابلهم المكلف بقسم الصحافة والأخبار وسألهم عن هويتهم فأخبروه بما طلب منهم والغرض من زيارتهم وقال لهم بالحرف الواحد وفي نرفزة: «إذا كنتم مقاومين فإنني أيضا قاومت قبلكم». واستغرقت المناقشة مع سيادة المكلف بقسم الصحافة نصف ساعة كاملة تنازل بعدها عن التصلب الذي كان يبديه في أول الحديث. وقد اقترح عليهم في الأخير أن يخرجوا بعد أن وعدهم بتنظيم مقابلة مع جلال الملك بمجرد ما تنتهي الحفلة التي كانت تقام يومذاك على شرف الشيخ أحمد توري (رئيس جمهورية غينيا) في قصر السلام. وفي الساعة الخامسة من نفس اليوم أذنت لهم الشرطة بالمشور بالدخول إلى القصر الملكي.