الجابري: «محمد الخامس عزم قبل وفاته على إلغاء مجلس الدستور المعين وانتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور»
ثالثا: نحو إجماع وطني كامل على إعطاء الكلمة للشعب
وفي عدد 6 ماي 1961 من «التحرير» نشرنا تحت العنوان أعلاه المقال التالي، بعد أن أخذت كثير من الهيئات والأحزاب ـ وهي جميعا مشاركة في الحكومة ـ تلمس عن قرب وبشكل يومي انزلاق المغرب نحو حكم فردي مطلق، يدير دفته أحمد رضا كديرة الذي كان في آن واحد: الرئيس القانوني للحكومة، والمدير العام للديوان الملكي، ومدير ديوان رئيس الحكومة (الملك)، ووزيرا للفلاحة، ووزيرا للدفاع، ووزيرا للداخلية، ووزيرا للخارجية بالنيابة!
يقول المقال:
«عندما توفي محمد الخامس كانت قد طويت صفحة من تاريخ المغرب وفتحت صفحة أخرى جديدة. ليس معنى هذا أن كل ما نشكو منه الآن لم يكن له أثر من قبل، فلقد كانت معركة الديمقراطية قائمة منذ أن وضع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مطلب الدستور في إطاره الحقيقي, حيث طالب في أوائل أبريل من السنة الماضية بتكوين مجلس تأسيسي لوضع الدستور.
بالرغم من قيام المعركة منذ ذلك التاريخ فإن وجود محمد الخامس كان يشكل، كما قلنا ذلك من قبل، ضمانة تبعث على شيء من الاطمئنان في انتظار قيام الضمانة الحقيقية التي هي المؤسسات الوطنية التمثيلية. وهذه الضمانة التي كانت تتمثل في وجود محمد الخامس كان قوامها روحه الديمقراطية السمحة التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، وإيمانه بشعبيته وحرصه عليها، تلك الشعبية التي لم تأت نتيجة لشعوذة ولا لتضليل، وإنما ولدت ونمت في أوساط المعركة التحريرية التي كان يخوضها إلى جانب شعبه، كما كان من مقومات هذه الضمانة ما عرف به محمد الخامس في حياته من التبصر والتعقل والأناة وتغليب جانب الحكمة في كل شيء.
كل ذلك مجتمعا كان يبعث على شيء من الاطمئنان ويقوي جانب الأمل ويجعل المعركة الديمقراطية في المغرب تسير إلى هدف معلوم، مهما تكن المعوقات التي تحول دونه، فلقد كان هناك يقين بأن المعركة منتهية إليه لا محالة.
لقد كان هناك يقين ثابت أن محمد الخامس لن يلبث أن تغلب عليه طبيعته وأن يحن إلى اللقاء مع شعبه مرة أخرى، كما كان يلتقي معه دائما من قبل في كل المعارك السالفة، وأن يضرب عرض الحائط بكل المعوقات التي تقف دون تحقيق أمنية الشعب في الحياة الديمقراطية السليمة.
وبالفعل فقد أصبح معروفا للجميع داخل المغرب وخارجه أن محمد الخامس في أيامه الأخيرة كان قد عزم على إلغاء تجربة مجلس الدستور المعين والشروع في الإجراءات الضرورية لانتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور. ولم يعد سرا أنه طرح هذه القضية في مجلس وزاري قبل دخوله المصحة، وأنه بالرغم من المعارضة التي لقيها (من ولي العهد) عندما طرح هذه القضية فقد ظلت عزما أكيدا في نفسه لا ينتظر للبت فيه إلا أن يغادر المستشفى.
وفجأة أعلن عن وفاة محمد الخامس فكان ذلك إعلانا في نفس الوقت عن موت الضمانة التي كانت تتمثل فيه والتي ذكرنا مقوماتها: من روح ديمقراطية، إلى شعبيته القائمة على الكفاح لا على الشعوذة، وعلى غلبة جانب الحكمة عليه في كل تصرفاته. وكان طبيعيا بعد موت هذه الضمانة أن تتجه أنظار الشعب أكثر من ذي قبل إلى الضمانة الحقيقية التي هي المؤسسات الوطنية التمثيلية، وهي ضمانة لا يخاف عليها من الموت لأنها مستمدة من إرادة الشعب فهي باقية ما بقي الشعب نفسه.
وفي غمار المخاوف والبكاء والدموع والحيرة والشائعات برز الاتحاد الوطني بالحل الواحد العملي الصحيح، الحل الذي يقبر المخاوف في مهدها ويقضي على الحيرة ويضع حدا للشائعات. وكان هذا الحل يتلخص في: «تكوين حكومة انتقالية ذات سلطات منصوص عليها تمكنها من تحمل مسؤولياتها كاملة، على أن تكون المهمة الأولى لهذه الحكومة الائتلافية هي تنظيم انتخابات عامة لتكوين مجلس تأسيسي منتخب من طرف الشعب، انتخابا مباشرا في مدة لا تتعدى ما تتطلبه الإجراءات الإدارية». ولكي يبرهن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن صدق نيته في اقتراح هذا الحل، إن كان الأمر يحتاج إلى تأكيد، فقد تردد في صحافته وعلى لسان قادته في المحاضرات وغيرها، أنه لا يهمه إطلاقا أن يشترك في هذه الحكومة الائتلافية المؤقتة أو أن لا يشترك، وأنه مستعد أن يعطي تأييده لأية حكومة صالحة تتكون على هذا الأساس.
ومهما يكن ما قوبل به هذا الاقتراح عند الإعلان عنه، سواء لدى المسؤولين, أو لدى الهيئات الوطنية الأخرى، فإن الأحداث التي مرت منذ ذلك اليوم حتى الآن قد عملت كلها على تأكيد صواب هذا الاقتراح، والبرهنة على أنه الحل الوحيد العملي الصحيح. إننا لسنا بحاجة هنا إلى أن نعطي أمثلة للتدهور الكبير الذي تردى فيه المغرب في الشهور الأخيرة، ويكفي كمثال على هذا التدهور أن تعيش الدولة من دون رئيس حكومة قانوني، وأن لا تجد أخيرا ما تتلافى به هذا «العطب» الكبير إلا أن تسند الصلاحيات القانونية التي لرئيس الحكومة إلى مدير الديوان الملكي السيد رضا كديرة.
ويكفي للدلالة على هذا التدهور أيضا أن تعيش الدولة بدون وزير فلاحة ولا وزير دفاع ولا وزير تعليم ولا وزير داخلية والبقية تأتي! وأكثر من كل ذلك هناك بوادر تدل على أن النية متجهة إلى الإمعان في الحكم الفردي المطلق وتجريد الدولة حتى من بعض المظاهر الشكلية التي تجعلها تمت بصلة إلى الحكومات العصرية المنظمة الديمقراطية. يكفي أن نرى النوايا متجهة إلى ضرب كل المكاسب الوطنية، وإلى حل التعبئة الشعبية، وإلى التماس القدوة في الحكم من بعض الأوضاع الفاسدة المتعفنة التي لم يحفظها من غضب شعوبها حتى الآن إلا احتماؤها بالاستعمار واعتمادها عليه.
وسيطول بنا المقال إذا ذهبنا نعدد كل مظاهر التدهور والانحلال والفساد في بلادنا في الشهور الأخيرة بصورة خاصة، لأنها واضحة معروفة لا تحتاج إلى تذكير، ونتيجتها أيضا واضحة معروفة وهي هذا الانحلال الذي لا مزيد عليه في الداخل وهذه السمعة السيئة في الخارج التي تأخذ شيئا فشيئا مكان السمعة التي كان يتمتع بها المغرب بفضل وعي شعبه وبفضل عالمية ملكه الراحل محمد الخامس.
ونعود إلى الاقتراح الذي كان قد برز به الاتحاد الوطني للقوات الشعبية غداة وفاة محمد الخامس، نعود إليه لنرى أنه مهما يكن ما قوبل به عند الإعلان عنه، فإن الأحداث لم تزد على أن أكدت وبرهنت على صدقه، نحن نرى أن هذا الاقتراح قد أصبح بصورة أو بأخرى هو الحل الوحيد المطروح وهو الذي تنادي به الهيئات الوطنية الأخرى وتقرره في كل يوم وتلح في المطالبة به. إن إجماع الهيئات الوطنية قد أصبح منعقدا على وجوب تكوين حكومة ائتلافية ذات صلاحيات منصوص عليها تمكنها من تحمل مسؤولياتها كاملة، وإن الإجماع قد أصبح منعقدا على أن تكون المهمة الأولى لهذه الحكومة الانتقالية تنظيم انتخابات عامة تنبثق منها المؤسسات الوطنية التمثيلية.
وإذا كنا حتى الآن لا نسمع ولا نقرأ صراحة أن المؤسسة التمثيلية الأولى التي يجب العمل على انتخابها هي المجلس التأسيسي، فنحن متأكدون أن ذلك هو نهاية المطاف، وأن هذه النقطة بالذات ستكون من غير شك موضوع إجماع وطني أكثر من غيرها من النقاط الأخرى.
ذلك لأن الأوضاع غير الصالحة لا ينفع في علاجها مراوغتها أو محاولة ترقيعها، وإنما الشيء الوحيد الذي ينفع هو أن تستبدل بها أوضاع أخرى صالحة. والحكم الفردي لم يبرهن عندنا نحن فقط على عدم صلاحيته, فهو غير صالح أبدا في أي زمان وفي أي مكان. والذي يقابل الحكم الفردي المطلق إنما هو إعطاء الكلمة للشعب واعتباره مصدر جميع السلطات وعلى رأسها السلطة التشريعية. ومعنى ذلك باختصار أنه لا صلاح للأوضاع أبدا إلا بأن تنتقل السلطة التشريعية إلى يد الشعب نفسه، الأمر الذي يقضي حتما أنه لا دستور إلا الدستور الذي ينبثق عن إرادة الشعب ويضعه ممثلون منتخبون من طرف الشعب انتخابا مباشرا. أما الإيمان نظريا بأن الشعب هو مصدر السلطات والسير عمليا على عكس ذلك، فهو تناقض بين لا يمكن له أن يستمر مهما تكن الدوافع التي تحمل على قبول الاستمرار فيه، وذلك ما يجعلنا نعتقد في أن الدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي ستكون من غير شك هي المظهر الأول للوحدة والإجماع الوطني، ويومئذ تصبح فرضا لا مفر منه وغاية قريبة المنال، لأن الإجماع الوطني لا يمكن أن يقاوم وهو قوة حقيقية تتحطم عليها كل القوى وتفشل كل المناورات! فهل أصبحنا اليوم على أبواب إجماع وطني كامل حول مبادئ وأهداف صحيحة. إن أي مخلص لا يستطيع إلا أن يرجو ذلك من أعماق قلبه، على أن تكون النوايا التي تدعو إلى هذا الإجماع نوايا صادقة مخلصة لا أثر فيها لغير المصالح الوطنية العليا».