الجابري: «مأساة المقاومة بقيت بدون حل بعدما خلق منها المتلاعبون مشكلة مصطنعة!»
حدث أن تكونت هيئات منذ السنة الأولى من الاستقلال لرعاية أبناء الشهداء وعائلاتهم، ولكن هذه الرعاية بقيت صورية فقط. وحتى هذه الصورية أصبحت تزول عنها في الأيام الأخيرة، مما أدى بهذه العائلات إلى حالة من البؤس والفقر والحاجة، ما كان يليق بهذا الوطن أن يتركها تنزلق إليها. لقد أصبحت عائلات الشهداء في حالة مزرية وأصبح جلها يقضي النهار في التردد على العمالات وعلى تلك الهيئات مستجدية مستعطفة. ولكن الاستجداء والاستعطاف لم يفدها فتيلا، إذ أصبح الجواب الذي تجاب به تلك العائلات هو: «اذهبن إلى أصحاب أزواجكن وآبائكن، فلديهم وحدهم الحل في هذه المسألة. وهكذا أصبح مركز جمعية المقاومة وجيش التحرير، وهكذا أصبحت إدارة ومطبعة هذه الجريدة، لا يمر عليهما يوم واحد دون أن تقصدهما عدة عائلات ممن سقط أزواجها وأولادها في ميدان الشرف، تعرض مشاكلها وتقص ما عانته من السلطات والهيئات المختصة بشؤون عائلات وأبناء أولئك الذي سقطوا في سبيل هذا الوطن، وفي سبيل تمكين أبنائه من حكم أنفسهم بأنفسهم.
ثم إنها مأساة وأية مأساة، مأساة المقاومة التي بقيت بدون حل والتي خلق منها المتلاعبون وأصحاب الأغراض مشكلة مصطنعة! إنها مأساة وأي مأساة أن تبقى عائلات وأبناء الشهداء متسكعين في الطرقات يستنجدون هذا ويستعطفون ذاك. مأساة نرجو أن لا تنتهي هذه السنة الرابعة بعد الاستقلال إلا وقد عولجت بما يستحقه شهداء هذا الوطن من جزاء واعتراف بالجميل».
ثالثا: اعتقال البصري واليوسفي والمؤامرة المزعومة على ولي العهد
1 ـ وزير في حكومة عبد الله إبراهيم يحاكم «البصري»!
بدأت علامات المؤامرة على التحرير والبصري واليوسفي خصيصا عندما بادرت المحكمة الإقليمية بالدار البيضاء إلى إصدار حكمها يوم 21/10/1959 في قضية القذف التي كان قد رفعها ضد التحرير وزير التعليم آنذاك المرحوم الأستاذ عبد الكريم بنجلون. ومع أن هذه الشخصية كانت معروفة باستقامتها، إلا أن وجوده كوزير للتعليم في حكومة عبد الله إبراهيم كان من جنس وجود «وزراء السيادة» في حكومة اليوسفي. كانت وزارة التعليم آنذاك ـ وربما ما زالت إلى اليوم ـ تعد من طرف المخزن وزارة استراتيجية لا يجوز إسنادها للأحزاب. وذلك نظرا لأهمية دور الطلاب في تحريك الأحداث السياسية، وأيضا نظرا لكون رجال التعليم يحسبون من القوى المعارضة كما كان الشأن دائما من خلال نقاباتهم واحتلال كثير منهم مواقع هامة في تنظيمات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. هذا ما يفسر كون جميع وزراء التعليم في المغرب كانوا إلى اليوم من نوع «وزراء السيادة» كما قلنا.
ومهما يكن، وعلى الرغم من أن علاقات الأستاذ المرحوم عبد الكرين بنجلون مع قيادة الاتحاد كان يشوبها بعض التوتر في ذلك الوقت فإن رفعه لدعوى ضد محمد البصري مدير جريدة التحرير، وهو وزير في حكومة عبد الله إبراهيم، لم يكن شأنا حكوميا. فالمسألة إذن تجد مصدرها خارج الحكومة. هذا ما جعلنا ننظر إلى هذه الدعوى كمؤشر لما سيأتي. ولم يكن «ما سيأتي» خافيا علينا لأن «أخبارهم كانت عندنا» كما شرحت في مدخل هذا الكتيب. ولكن مع ذلك كان لابد من انتظار نتيجة المحاكمة. ولما صدر الحكم يوم 21/10/1959 بالإدانة، (وبغرامة قدرها خمسون ألف فرنك) عرفنا أن «ما سيأتي» كان في الطريق. ولذلك كنا نأخذ أكبر قدر من الحذر فيما ننشر. فكان لا بد من قراءة كل خبر وكل تعليق من زاوية «التأويل» الذي يمكن أن يعمد إليه «من يهمهم الأمر».
ومع ذلك فقد وجدنا أنفسنا ذات يوم إزاء نوع من الأمر الواقع الذي «فرض» نشر تقرير صحفي كتب بطريقة لا غبار عليها على مستوى لهجة الجريدة وتوجهاتها، ولكن بأسلوب وعبارات لم تخضع للرقابة الذاتية التي يفرضها العلم بـ«الخبر». ولم يكن كاتب التقرير من «المشاركين في الخبر» لحداثة عهده بالجريدة. وقد ترتب عن ذلك أن وجد المتربصون بالاتحاد والتحرير ذريعة لتدشين مؤامرتهم، فكان اعتقال البصري واليوسفي، ثم الحملة القمعية التي طالت معظم المقاومين الاتحاديين أو المتعاطفين مع الاتحاد، بتهمة أثبت التحقيق بطلانها، تهمة «التآمر لاغتيال ولي العهد» وما رافقها من تهم غليظة أخرى. والقصة كانت كما يلي:
ـ «طردوا الاستعمار بالأمس وأصبحوا اليوم مطاردين»
كنت سافرت في العشر الأواخر من شهر تشرين الثاني / نوفمبر من السنة نفسها (1959) إلى أرفود بإقليم تافيلالت، في ضيافة قيادة جيش التحرير بالناحية الشرقية، للقيام بتحقيق حول الوضعية العامة بهذا الإقليم وحول نضال جيش التحرير في صحرائنا الشرقية ضد الجيش الفرنسي المحتل، وهو النضال الذي كان يجري في المناطق التي اقتطعتها فرنسا من المغرب الشرقي وضمتها لمستعمرتها الجزائر. وعندما عدت من تافيلالت في مساء اليوم الثاني من كانون الأول / ديسمبر قصدت مقر الجريدة بعد ظهر اليوم التالي. وبمجرد ما وصلت طلب الأخ عبد الرحمان مقالة كان قد دفعها للطبع، وقدمها لي، وقال: «شوف هذا»!
كانت المقالة تحكي ما رواه لأحد العاملين في الجريدة وفد من المقاومين زاروا مقر التحرير بعد أن عادوا من الرباط حيث ذهبوا لطلب مقابلة جلالة الملك محمد الخامس ليعرضوا عليه الوضعية المأساوية التي يعيشونها وما يتعرضون له من سوء المعاملة. كان المحرر الذي استمع إليهم هو الأخ البلغيتي، وهو من الأطر الشورية التي انضمت للاتحاد، ولم يكن على علم بخلفيات الأمور، فنقل ما قالوا وصاغه في عبارات احتجاجية كما جرت عادتنا في مثل هذه الأمور. غير أن الظروف في ذلك الوقت كانت تقتضي اختيار العبارات بدقة، قرأت المقالة وترددت في نشرها كما كان الأخ عبد الرحمان مترددا. لكن نظرا لكون المقالة تروي ما جرى لوفد من معطوبي المقاومة، وكونها قد كتبها الأخ البلغيتي، وهو كما قلت من قدماء حزب الشورى، وكان قد التحق حديثا بالجريدة مما كان يستلزم تجنب الحساسية التي ربما كان سيثيرها عدم نشر المقالة أو تغييرها، ونظرا لكون عمال الطبع والمصححين.. إلخ، قد اطلعوا عليها، كل ذلك قد جعل من الصعب تغيير شيء فيها. ولكن في المقابل، ومن أجل التخفيف من وزنها، أعدنا كتابتها بحروف صغيرة ووضعناها في أسفل الصفحة الأولى، إشارة إلى أن الجريدة لا تريد أن تجعل منها موضوعا لـ«العراك»، إذ لو كنا نريد ذلك لوضعناها على صدر الصفحة الأولى وبمنشيطات على ثمانية أعمدة كما هي العادة. ولكي يتتبع القارئ بدقة مجريات الأمور ننقل هنا نص المقالة وكان عنوانها:
«طردوا الاستعمار بالأمس فأصبحوا مطاردين»
تقول المقالة: «كانت تضطهدهم بالأمس قوات شرطة الاستعمار، فأصبحت اليوم شرطة وقوة المغرب، المستقل بفضل تضحياتهم وأرواح إخوانهم وأمثالهم من أبناء الوطن الأحرار، تطاردهم وتضطهدهم. وقفوا بالأمس وقفة رجل واحد ليقفوا في وجه الاستعمار وكان رجال اليوم يخافون أن ينطبق عليهم لفظة رجل، لأنها تفرض على حاملها واجبات. وواصل الأبطال الأحرار كفاحهم ومعركتهم فقتلوا وعذبوا لكن إيمانهم وعزيمتهم كانا أقوى من الاستسلام فصمدوا حتى أرجعوا للمغرب مجده وكرامته. وجاء الاستقلال وتطلعت الأعين واشرأبت الأعناق تريد أن ترى الأبطال الأحرار، فإذا بعدد وافر من الأبطال، معطوب أو مصاب بجرح تسبب له في عطب دائم، وإذا بهم أرباب عائلات فيها أطفال صغار ينتظرون لقمة العيش من آبائهم المعطوبين. وإذا بهم أمهات تحتضن أبناءهن الصغار في انتظار لقمة العيش، لا لأن الآباء معطوبون ولكنهم ماتوا واستشهدوا مقدمين أنفسهم وما لديهم دفاعا عن وطنهم.
من هؤلاء؟ أهم سعاة يجلسون على أرصفة الشارع ينتظرون صدقة؟ أهم ضحايا فيضان أو حريق؟ أهم محاربو الجيش الفرنسي القدماء؟
إنهم ـ نقولها بكامل الحسرة والخجل ـ المقاومون الذين أحرزوا للمغرب على استقلاله.
مرت أربع سنوات على الاستقلال كون خلالها المغرب لا حكومة واحدة بل حكومات، وأحدثت كل ما يتطلبه وجود دولة مستقلة من أجهزة في مختلف الميادين. مرت أربع سنوات وماذا فعل المغرب؟ وماذا فعلت الدولة مع المقاومين، مع الذين شيدوا هذه الدولة؟
لا شيء.