الجابري: «قضية الديمقراطية في المغرب قد تعرضت لـ«سوء الحظ» طيلة القرن العشرين»
الفصل العاشر
تأجيل الديمقراطية في المغرب!
أولا: الأولوية لقضية الاستقلال على المسألة الديمقراطية
إذا جاز للمرء أن يبرز في مغرب القرن العشرين أكثر الطموحات الوطنية التي تعرضت لـ«سوء الحظ»، فإن قضية الديمقراطية تفرض نفسها على رأس القائمة. إن هذا يعني أن المثل المغربي «بابور المغرب عمرو ما يقلع» (سفينة المغرب لن تقلع أبدا)، قد انطبق فعلا على مغرب القرن العشرين في مجال الديمقراطية بالتحديد. ولم يكن سبب ذلك راجعا إلى تقاعس المغاربة عن المطالبة بالديمقراطية، ولا إلى عجزهم عن ممارستها ولا إلى عدم وعيهم بأهميتها، بل لقد كان ذلك راجعا إلى نوع من «التواطؤ التاريخي» ـ إذا جاز هذا التعبير ـ قوامه التنافس، إن لم يكن التعارض، بين القضية الوطنية والقضية الديمقراطية. أعني بذلك أنه كلما طرحت قضية الديمقراطية، إلا ووجد المغاربة أنفسهم أمام قضية وطنية تفرض نفسها كصاحبة الأولوية. أما أن تكون هذه «الأولوية» تشكل فعلا ضرورة لا يمكن تجاوزها ولا حتى إشراك أولية أخرى معها كأولوية الديمقراطية مثلا، أم أن الأمر إنما يتعلق بالهروب من «مشاكل» الديمقراطية في ظروف لا تضمن فيها الديمقراطية لـ«الوطنيين» قيادة القافلة المغربية ككل، أو قافلة الوطنية ككل، فهذا أمر يتجاوز المعطيات الموضوعية إلى تأويل الأحداث وقراءة النوايا، وهذا ما لا يدخل في اهتمامنا ولا ينتمي إلى الأفق الذي نفكر في إطاره.
لنكتف إذن بالقول إن قضية الديمقراطية في المغرب قد تعرضت لـ«سوء الحظ» طيلة القرن العشرين. ونحن نقصد قصدا استعمال عبارة «سوء الحظ»، رغم طابعها اللاعقلاني، لأننا نريد أن نجعل منها المضمون الذي نعطيه هنا للعبارة ذات المضمون العقلاني التي سنستعملها مكانها، عبارة: «تأجيل الديمقراطية في المغرب». ونحن نقصد بالتأجيل هنا معناه الحقيقي المعروف، وهو أن يريد الواحد منا فعل شيء، ثم يحدث أو يبرز «ما هو أهم»، فيؤجل ذلك الفعل إلى حين القيام بهذا «الأهم». بهذا المعنى نقول إن قضية الديمقراطية قد تأجلت في مغرب القرن العشرين خمس مرات. أما بالنسبة لهاتين السنتين اللتين تحسبان على القرن الواحد والعشرين، فأقل ما يمكن قوله بصدد الديمقراطية فيهما إنها ما زالت معلقة! على الأقل قياسا إلى مضامين الديمقراطية كما خاض الاتحاد الوطني للقوات الشعبية معارك ضارية من أجلها خلال الستينات من القرن العشرين، الشيء الذي سنفصل القول فيه في هذا الفصل.
لنترك المعلق الآن معلقا إلى أن يفك الله وثاقه، ولننظر إلى القرن الذي ولى، وبالتخصيص إلى المرات الخمس التي تأجلت فيها الديمقراطية.
1ـ كانت المرة الأولى في العقد الأول من القرن العشرين حينما ظهرت حركة دستورية بلغت أوجها مع عزل السلطان عبد العزيز وتولية عبد الحفيظ مكانه على أساس بيعة مشروطة، مرفوقة بمشاريع دساتير قدمها أصحابها كأساس لتدشين العمل بالديمقراطية الحديثة في المغرب، على طريق نهضة كانت تستوحي النموذج والمثال من نهضة اليابان. لقد سبق أن تحدثنا في هذا الموضوع بما نعتبره كافيا في كتابنا المغرب المعاصر، فليرجع إليه من هو في حاجة إلى قول مفصل في هذا الشأن. وما نريد أن نبرزه هنا هو أن تلك الحركة الدستورية قد تعرضت للتأجيل بسبب ضرورة إعطاء الأولوية للقضية الوطنية المتمثلة يومئذ في صد التدخل العسكري الفرنسي، الذي فرض معاهدة الحماية سنة 1912. كان من الطبيعي إذن أن يتجه الشعب المغربي بنضاله المسلح (في الأطلس والجنوب والريف) إلى مقاومة الاحتلال، ليتجه بعد ذلك بنضاله السياسي إلى استرجاع الاستقلال
-2 وكانت المرة الثانية التي أجلت فيها الديمقراطية في المغرب عندما قدمت «كتلة العمل الوطني»، التي كانت تمثل النخبة السياسية الوطنية في مغرب الثلاثينيات من القرن الماضي، دفتر «مطالب الشعب المغربي» إلى الملك محمد الخامس سنة 1934، وهي مطالب تنص على إصلاحيات سياسية، داخل معاهدة الحماية كما يفهمها المغرب: هدفها توسيع اختصاصات السلطان وحكومته المخزنية وإشراك المغاربة في المؤسسات الإدارية التي أحدثتها حكومة الحماية الفرنسية، وانتخاب مجالس محلية ومجلس وطني من طرف المغاربة وحدهم، مسلمين ويهود، (دون الفرنسيين والأوروبيين لأنهم أجانب غير مواطنين). ومع أن دفتر الإصلاحات قد اهتم بالحريات العامة واستقلال القضاء…إلخ، مما يدخل في إطار الديمقراطية، إلا أنه قد سكت تماما عن «الدستور» ! وهذا يمكن تبريره بكون «مطالب الشعب المغربي» يومئذ، كما عبرت عنها تلك النخبة السياسية في الدفتر المذكور، كان الهدف منها مواجهة سياسة التوسع السياسي والإداري التي كانت تسلكها سلطات الحماية الفرنسية بعد أن تمكنت من التوسع العسكري، وذلك بمطالبتها بتنفيذ «الإصلاحات» التي يقتضيها ارتقاء المغرب إلى مستوى الدول الحديثة، طبقا لما نصت عليه معاهدة الحماية. وإذن فـ «دفتر مطالب الشعب المغربي» كان موجها إلى فرنسا، ولم يقدم للملك محمد الخامس إلا لكونه المتكلم باسم المغرب ككل، وبالتالي فالسكوت عن «الدستور»، الذي هو أساس الديمقراطية، كان من أجل القضية الوطنية التي كانت تتمثل يومئذ في المطالبة بتطبيق معاهدة الحماية تطبيقا يعيد للملك سلطاته ويسير بالمغرب إلى مرحلة الاستقلال.
-3 وعندما لم تستجب السلطات الفرنسية لهذه المطالب، بل حاولت الالتفاف عليها باقتراح إصلاحات جزئية تخدم الوجود الفرنسي في المغرب، قفزت الحركة الوطنية إلى «المطلوب» صراحة، وذلك بتقديم عريضة الاستقلال يوم 11 يناير 1944. وبعد مرحلة من القمع كانت عبارة عن رد الفعل الاستعماري على مطلب الاستقلال، عمدت الحكومة الفرنسية إلى نوع من المهادنة مع المغرب، فعينت مقيما عاما جديدا في أواخر الأربعينيات، هو إريك لابون، المعروف باتجاهه «الليبرالي» وبإصلاحاته في مجال التعليم والحياة العامة. غير أن زيارة الملك محمد الخامس لطنجة عام 1947 وخطابه فيها الذي تميز بتجاهل فرنسا وإعلان جلالته انتماء المغرب إلى الأسرة العربية (في الوقت الذي تأسست «جامعة الدول العربية»)، الشيء الذي تحمست له الجماهير فهتفت باستقلال المغرب…إلخ، كان من نتائجها أن عمدت الحكومة الفرنسية إلى عزل إريك لابون وتعيين الجنرال جوان مكانه.
تقدم الجنرال جوان إلى الملك محمد الخامس ببرنامج «إصلاحات» يبدو في ظاهره أنه يلبي إلى «حد كبير» ما ورد في «دفتر مطالب الشعب المغربي». غير أن هذا الدفتر الذي يرجع إلى سنة 1934 قد تجاوزته عريضة الاستقلال التي أصبحت منذ 1944 البرنامج الوطني الذي يلتزم به الملك والحركة الوطنية. أضف إلى ذلك أن الجوانب التي تحسب على «الديمقراطية» في برنامج الجنرال جوان، كانت تنص على مشاركة الجالية الفرنسية في المؤسسات التمثيلية التي يقترح إنشاؤها، وهذا ما رفضته الحركة الوطنية رفضا، لأن ذلك يعني إضفاء الشرعية الوطنية على المحتل الأجنبي.
شرح الزعيم علال الفاسي في كتابه «الحركات الاستقلالية» أسباب رفض الحركة الوطنية لبرنامج إصلاحات الجنرال جوان فكتب يقول: «إن الحزب يرى من ضياع الوقت أن يصرف جهوده في مطالبة الحماية في شؤون جزئية، ويفضل أن يبذل نشاطه وتضحيات أنصاره في خدمة المسألة العامة التي في حلها مفتاح كل المسائل الجزئية ونجاحها»، و»المسألة العامة» المعنية هنا هي «مسألة السيادة»، هي الاستقلال. ويؤكد الزعيم علال ذلك مرة أخرى في بيان أصدره في القاهرة يرد فيه على الصحف الفرنسية التي أشادت بـ «مشروع الإصلاحات» الذي قدمه الجنرال جوان إلى محمد الخامس، والذي وصفته بكونه «إصلاحا حقيقيا يتدرج بالمغرب نحو حكم ذاتي سريع»، لأنه ينص على «إشراك المغاربة» في تسيير الشؤون العامة، وذلك بتأليف وزارة مشتركة، عشرة من المغاربة وعشرة من الفرنسيين، مع احتفاظ فرنسا بمسؤولية الشؤون الخارجية والدفاع، وتكوين مجلس شورى مشترك نصفه من المغاربة ونصفه من الفرنسيين ومجالس بلدية وإقليمية كذلك…إلخ، يؤكد الزعيم في البيان المذكور: «أننا لا نقبل أبدا أن يصبح للجالية الفرنسية أي حق في الإدارة ولا في الاستشارة لأنهم أجانب في بلادنا ولا يمكن أن نسمح لهم بأي حق من حقوق المواطن المغربي ماداموا متمسكين بجنسيتهم الفرنسية». ثم يضيف: «أما التلويح لنا بالديمقراطية، فلن يخدعنا نحن ولا أي مخلص من أفراد الشعب المغربي عن الحقائق الملموسة. فحزب الاستقلال لا يقبل أي حل لا يقوم على أساس الاعتراف بالاستقلال الكامل وتحرير الأمة من الحجر الأجنبي». ويضيف الزعيم: «وفي الوقت الذي أدليت فيه بهذا البيان في القاهرة كانت اللجنة التنفيذية للحزب توزع بيانا في نفس المعنى ختمته بقولها: «ومجمل القول: إن كل عمل ينجز في دائرة الحماية لن يتطور التطور المنشود، وإن أول إصلاح حقيقي هو إلغاء الحماية وتأسيس حكومة مؤقتة تنظم انتخابا حرا عاما لمجلس وطني يضع دستورا للبلاد».