الجابري: «شيخ العرب كان هو وتنظيمه خارج الاتحاد وتنظيماته الرسمية وأسطورته كان فيها الكثير من المبالغة»
عكست التحرير ذلك السخط منذ عدد 25 يناير 1962 إذ نشرت الخبر على صدر صفحتها الأولى بعنوان كبير على ثمانية أعمدة: «إعدام أربعة مقاومين في السجن المركزي بالقنيطرة»، وهؤلاء هم: مولاي إدريس بن أحمد الدكالي، وأحمد بن محمد تاجا المدعو الجابوني، وعبد الله الزناكي، ومحمد بن حمو. وذكرت التحرير بكون محمد بن حمو كان قد حكم عليه بالإعدام أيام الاستعمار وأنه لم ينفذ فيه الحكم فخرج من السجن في عهد الاستقلال.
كما نشرت جريدة التحرير بالمناسبة صورة تذكارية له وهو مطوق بعدد من البوليس الفرنسي بلباسهم الرسمي في قاعة المحكمة الفرنسية بالمغرب. وتحت الصورة العبارة التالية: «الشهيد محمد بن حمو حكم عليه الاستعمار بالإعدام.. وأعدمه الحكم الفردي»، في عهد الاستقلال وأضافت التحرير أنه في ساعة الإعدام امتنع بن حمو من أن تعصب عينيه حين إطلاق الرصاص عليه وفضل أن ينطق بما نطق به المقاوم الراشدي حينما واجه تنفيذ حكم الإعدام الذي أصدرته عليه محكمة السلطات الفرنسية أيام الحماية، صارخا: «اتركوني أرى ولآخر مرة سماء المغرب الذي أموت في سبيله». وعندما تقدم الجند لإعدام عبد الله الزناكي هتف عاليا: «يحيا التاريخ»، أما ثالثهم فقد صاح يقول: «هذا ما يجازينا به الإقطاع».
6 ـ في تلك الظروف التي ذكرنا، كان رد فعل آخر يشق مساره الخاص به. إنه ذلك الذي طغى فيه اسم صاحبه حتى أصبح اسمه على كل لسان، خصوصا سنة 1962ـ 1963. إنه «شيخ العرب»، واسمه الحقيقي أحمد أكوليز. وهو أحد المقاومين الذين دخلوا السجن في السنة الأولى من الاستقلال لكونه انتقم من ضابط الشرطة الذي أطلق النار على علال بن عبد الله حين هجم على الملك الدمية محمد بن عرفة. كان هذا الضابط شرطيا في البوليس الفرنسي ومعروفا بإيذائه الوطنيين والمقاومين. وقد بقي في منصبه بعد الاستقلال ونقل إلى أكادير، وهناك فوجئ به «شيخ العرب» وكان يعرفه منذ إقامته في الرباط قبل الاستقلال، فلم يتردد في تصفيته. وكانت سنة 1956 قد عرفت تصفيات من هذا النوع، وأخرى بين بعض تنظيمات المقاومة. دخل «شيخ العرب» السرية، وفي سنة 1958 سلك المسلك نفسه مع قائد قريته الذي كان يتعسف في ممارسة السلطة، وقد اشتكى منه السكان لكونه كان يعتدي على شرف العائلات ويهتك الحرمات. ويقال إن عائلة من أقارب شيخ العرب قد تعرضت لذلك، فما كان من هذا الأخير إلا أن تقدم إليه وقتله، وكانت النتيجة أن حكم عليه بالإعدام، وهو ممعن في سرية أعجزت الأجهزة المختصة، فلم تستطع اعتقاله.
وهكذا فعندما شنت حملة القمع على المقاومين بتهمة التآمر على حياة ولي العهد في فبراير 1960 كان «شيخ العرب» قد أتقن لعبة الاختفاء والتنكر. ويقال إنه منذ ذلك الوقت بدأ في تنظيم «مقاومة جديدة تتمم ما لم تنجزه الأولى». ويبدو أن نشاطه في هذا الاتجاه قد اتسع مع بدايات 1962.
ففي تلك الفترة نقل إلي خبر مشاجرة جرت في حانة بالقنيطرة بين رجال من الشرطة السرية وشخص ممن كانوا يصنفون من «أطر» الاتحاد، مشاجرة انطلق فيها لسان هذا الأخير مهددا الشرطة بـ«الثورة» وما معناها من الكلام غير المسؤول. وصلني الخبر على عجل، وأبلغته من يهمه الأمر من قيادة الاتحاد على عجل أيضا. وأجري نوع من التحقيق في المسألة، ولكن لم يقع تدخل من النوع الذي يجعل حدا للنازلة.
ومنذ ذلك الوقت تقريبا وأخبار «شيخ العرب» تنقل إلي مرة أو مرتين في الأسبوع من أحد الأصدقاء الذين كانوا على صلة به (المرحوم أ.ب). لقد كان اسم «شيخ العرب» على كل لسان. ومع أن ما يقال عنه كان من قبيل أخبار «راديو المدينة» التي يتبجح بها في المقاهي، كالمقهى التي ذكرتها سابقا «لوبوتي بوسي» في الدار البيضاء، فإن انتشار هذه الأخبار على نطاق واسع قد هيج أجهزة البوليس التي لم تستطع العثور عليه ولا اقتفاء أثره، وصار شبحا يصدق عليه «رآه… رآه… ما شفناه»!
والمبالغة والتضخيم من مميزات ما كان يروى عن هذا الرجل الذي أصبح بحق أسطورة. وكان يصدق على ما كان يصلني من الأخ المشار إليه من الأخبار «الرسمية» عن «الشيخ»! لقد كانت تتصف هي بالمبالغة، وتتعدى إمكانيات هذا الرجل الذي كان يقع هو وتنظيمه خارج الاتحاد وتنظيماته الرسمية. ومع أن الشرطة كانت على يقين من أنه يقع خارج الاتحاد كحزب وكتنظيم وكاختيار فإن شيوع اسمه وأخباره وعجز البوليس عن اكتشاف أمره دفع أجهزة السلطة إلى الاعتقاد بأن حملة شاملة على الاتحاد الوطني ستمكن من اكتشاف الطريق إليه، تماما مثلما يحدث عندما تقفل مخارج الصهريج وتصفى مياهه كلها ليبقى «السمك» معزولا بوضوح. والحق أن تنظيم «الشيخ» لم يكن الوحيد في الساحة الموازية لمجرى الاتحاد الوطني. لقد برز طرف آخر ربما جاء كرد فعل منافس لتنظيم «شيخ العرب»، وربما كان هناك من يرى أن «شيخ العرب» ليس يقدر وحده على ما يريد أن يقوم به، وربما.. وربما ! وكانت أصداء هذا التنظيم المنافس تتردد في أوساط بعض الأطر الاتحادية ممن كانوا يشكلون طاقم الكتابة العامة بشارع علال بن عبد الله يومئذ، وليس من المستبعد أن يكون الحديث في مثل هذه الأمور يجري هناك بين بعضهم. وبما أن المكان كان «مدخولا»، فقد كانت الأخبار تصل إلى البوليس أولا بأول، وكلها كلام في كلام. وعلى إثر ذلك علمت من المرحوم (أ.ب) أن «شيخ العرب» قرر تجميد مشروعه، خصوصا عندما تبين له أن قيادة الاتحاد ليست في هذا الاتجاه.
7 ـ في هذا الوقت كانت المعركة مع كديرة وحزبه على أشدها. خصوصا منذ أن أعلن عن تأسيس «الفديك» (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) في 20 مارس 1963 أي شهرين فقط قبل الانتخابات البرلمانية المقررة. كان كديرة مديرا للديوان الملكي ووزيرا للداخلية والفلاحة. وقد حضر الإعلان عن تأسيس حزبه في فندق المنصور بالدار البيضاء، بعض الوزراء: اباحنيني والخطيب وأحرضان، وأيضا مدير الأمن الوطني الكولونيل أفقير! وكانت قد جرت صفقة مالية بين كديرة في نفس الفندق مع قيادة الاتحاد المغربي للشغل، كان من نتائجها أن قرر هذا الأخير مقاطعة الانتخابات البرلمانية لفسح المجال أمام حزب كديرة والمتحالفين معه، لـ«ينطحوا» الاتحاد الوطني، معزولا.
8 ـ وكان طبيعيا أن ترتفع لهجة التحرير بل أيضا لهجة تصريحات قيادة الاتحاد. مما سنفصل القول فيه في الكتاب الذي سنخصصه للمسألة الديمقراطية. لنقتصر هنا على هذا المثال: ففي حوار مشترك بين الشهيد المهدي والفقيد عبد الرحيم مع مندوب مجلة جون أفريك تناول تأسيس حزب كديرة أدلى القائدان الاتحاديان بتصريح غاية في الصراحة، وردت فيه عبارات لم تكن مألوفة.
9 ـ كان ذلك في إطار حملة انتخابية ساخنة جدا أسفرت عن اكتساح الاتحاد للساحة، فاضطر الحكم إلى الاعتراف له بشيء مما حصل عليه. كان التزوير علنيا ورسميا. ومع ذلك بقي للاتحاد نحو 28 مقعدا تكون منها فريق برلماني صلب.
إذن، بالنظر إلى هذه المعطيات كان من الطبيعي أن يفكر الحكم مرة أخرى في التخلص من الاتحاد. ومن هنا بدأ حبك المؤامرة التي سبق الحديث عنها في مدخل هذا الفصل، مؤامرة 16 يوليوز 1963 التي اعتقل فيها أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد من مكان اجتماعها في مقر الحزب. كانت أخبار هذه المؤامرة تصلنا. ومن حسن الحظ أنه تم إقناع الشهيد المهدي بمغادرة المغرب، لأنه كان مستهدفا في حياته، فغادر فعلا يوم 15 يونيو 1963.
تلك قصة وجه واحد من وجوه الصراع الذي خاضه الاتحاد في الستينيات مع الحكم الفردي. وفي الفصول اللاحقة قصص أخرى.