الجابري: «حكومة عبد الله إبراهيم خاضت صراعا من أجل إقرار سياسة تحررية في الميدان الاقتصادي»
إن التذكير بهذه المعطيات «المسكوت عنها عادة ضروري لفهم التحول الذي حصل بعد إسناد رئاسة الحكومة إلى عبد الله إبراهيم، ابن الجنوب (وليس ابن فاس أو الرباط)، فهو لم يكن من «البورجوازيين المتعفنين» حسب عبارته التي ذكرناها في الفصل السابق. وعندما تجندت القيادة «التقليدية» في حزب الاستقلال لمعارضة حكومة عبد الله إبراهيم أحس «الناس» أن تحولا ما قد حصل، وصار مبدأ «عدو عدوي صديقي» يحكم موقف كثير من القوة التي كانت تعارض حزب الاستقلال. وهكذا حصل لقاء ضمني حينا وعملي حينا آخر بين خصوم حزب الاستقلال من خارجه ومعارضي قيادته التقليدية من داخله. وقد أخذ هذا «اللقاء» يتسع ويتعمق بعد انتفاضة 25 يناير 1959 حين انفصلت جماهير حزب الاستقلال بقيادة رجال أمثال الفقيه البصري من الأطلس وعبد الرحمان اليوسفي من الشمال والمحجوب بن الصديق من عمال السكك الحديدية بمكناس والفقيه الحمداوي والدكتور بلمختار من أبناء القرى، وبرز مناضلون من الجنوب كالحاج عمر الساحلي والحبيب الفرقاني، ومن دكالة كبوشعيب الدكالي وآخرون من المغرب الشرقي كالفقيه الفكيكي والعربي بوراس وأحمد بلعربي، إلى جانب آخرين يطول ذكرهم من الناظور والحسيمة والشاوية وآسفي ومن «المستضعفين» من أهل فاس ومكناس والرباط وسلا وغيرهم من أبناء الجيل القديم والجديد، حين حصل هذا النوع من «الانفصال» نتج عنه تحول هام في المشهد السياسي المغربي. وهكذا لم تمر سوى بضعة أشهر حتى كان الإعداد لقيام «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» جاريا على قدم وساق. وكان هذا الاسم وحده كافيا للإشارة إلى نوع التحول الذي حصل. لقد ضم الاتحاد أطر وجماهير حركة 25 يناير بكاملها مع فصائل من أحزاب كانت الخصم اللدود لحزب الاستقلال (فصائل من حزب الشورى والحركة الشعبية، وعناصر من الأحرار المستقلين… إلخ)، بينما تقلص حجم حزب الاستقلال ليبرز فيه جانبان متناقضان تاريخيا: جانب «درب عمر» من جهة وجانب «الوطنيين الفقهاء» الذين مارسوا الوطنية والسلفية في القرويين أو من خلالها. أضف إلى ذلك جهاز «المفتشين» الذين كان بعضهم من كبار مناضلي الحزب أيام الحماية بينما تحول بعضهم إلى كبار موظفي الحزب بعد الاستقلال.
سادس عشر: من «كسر شوكة» حزب الاستقلال إلى قص جناحي الاتحاد
كان من نتائج هذا التحول على صعيد الوجود الشعبي لحزب الاستقلال الذي صادف فشل عملية «كسر شوكة» هذا الحزب بواسطة التمردات المصنوعة التي شرحنا، أن انتقلت الأيدي المحركة لـ«القوة الثالثة» من أجانب وغيرهم، إلى محاولة «قص أجنحة» هذا الكائن السياسي الوطني الشعبي الجديد ـ انتفاضة 25 يناير ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ـ الذي جاء على غير موعد ليخوض المعركة التي ترددت بل تقاعست قيادة حزب الاستقلال في خوضها: معركة تحرير الاقتصاد وإقرار الاختيارات الشعبية في بنائه، والعمل على تحقيق الجلاء ومساندة الثورة الجزائرية، والإعداد للانتخابات ووضع دستور ديمقراطي لتحويل المؤسسة الملكية المغربية التي تتوفر على الشرعية التاريخية والوطنية إلى ملكية تمتلك الشرعية الديمقراطية أيضا. إن ذلك يعني إعادة هيكلة «نظام حكومة المغرب» ليتحول الكلام عنها من «البيان المطرب» إلى «النضال المتواصل» من أجل مجلس تأسيسي لوضع دستور ديمقراطي!
كان على استراتيجية محركي «القوة الثالثة» التركيز على إفشال حكومة عبد الله إبراهيم في سعيها إلى التحرير الاقتصادي وتحقيق الجلاء، وذلك بتجنيد العناصر «الليبرالية» في جوقة هذه «القوة» وعلى رأسهم أحمد رضا اكديرة، من جهة، وسلوك مسلسل منهجي من القمع البوليسي من جهة أخرى لتفكيك وكسر شوكة إحدى القوى الأساسية في الاتحاد الوطني، قوة المقاومة كرجال ورصيد وإشعاع.
لقد خصصنا لاحقا قسما عن حملة القمع التي تعرض لها المقاومون. وسيكون علينا في ما تبقى من صفحات هذا الفصل أن نتحدث عن صراع حكومة عبد الله إبراهيم، ومن ورائها جريدة «التحرير» والاتحاد الوطني كله، من أجل إقرار السياسة التحررية في الميدان الاقتصادي وغيره.
سابع عشر: تواطؤ أطراف ثلاثة ضد التحرر الاقتصادي
عندما صدرت «التحرير» كان قد مضى على تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم ثلاثة أشهر وأسبوع واحد، وشهران وأسبوع واحد على انتفاضة 25 يناير 1959. وقد هيأ المرحوم عبد الرحيم بوعبيد تخطيطا اقتصاديا ثنائيا عاما يرسم توجه عمل الحكومة في السنتين التي كان لا بد منهما لإنجاز مخطط خماسي 1960 ـ 1965، كان الهدف منه القفز بالمغرب من وضعية التخلف والتبعية للمستعمر إلى وضعية التنمية الحقيقية والإقلاع الحقيقي في كل الميادين.
كان ذلك يتطلب أولا فك الارتباك مع فرنسا التي كانت قد جعلت من المغرب خلال الحماية ذيلا تابعا لها في كل الميادين. وواضح أن الأمر كان يتطلب أول ما يتطلب تحرير الاقتصاد المغربي وإعادة بنائه، وذلك من خلال سلسلة من التدابير التي كنا نسميها بحق «تدابير التحرير الاقتصادي»، ليغدو بالإمكان بعد ذلك الشروع في بناء الهياكل الاقتصادية الضرورية للإقلاع والانطلاق نحو مغرب كان سيكون السباق إلى الخروج من التخلف كما كان السباق في تحقيق الاستقلال.
كانت المعركة إذا مع الاستعمار الاقتصادي المهيمن في البلاد، وبالتالي مع المستفيدين منه. كان الخصم ثلاثة أطراف تجمعهم المصالح: رجال الأعمال الفرنسيون والمعمرون من جهة، عملاء هؤلاء من «القوة الثالثة» من جهة ثانية، والمتمولون من الاقتصاد الاستعماري أيام الحماية الذين ازدادوا تمولا في السنوات الثلاث الأولى من الاستقلال، وهم أساسا من «الوطنيين» الأغنياء الذين تربطهم بحزب الاستقلال علاقات عائلية وتجارية كان لها دور في تمويل هذا الحزب خلال العمل الوطني من أجل الاستقلال، وبالتالي كان لها تأثير كبير في قراراته الظرفية واختياراته العامة.
ثامن عشر: الصراع حول محمد الخامس.. من سيكسبه إلى جانبه؟
هذه الأطراف الثلاثة تمكنت من خلق قنوات للتأثير في بعض شخصيات المؤسسة الملكية وبالخصوص في ولي العهد. ولا بد من أن نشير في هذا الصدد إلى أن هذه الأطراف مجتمعة تواطأت بتنسيق، أو بغير تنسيق، على خلق جو من الخوف على المستقبل في المؤسسة الملكية مستعملة ما حدث في مصر, أعني الإطاحة بالملك فاروق والمد التحرري التقدمي السائد يومذاك، وإطاحة الحزب الدستوري بزعامة بورقيبة بالباي الذي كان على رأس «حكم ملكي» ورثته تونس من الخلافة العثمانية، وقد تم عزله مباشرة بعد الاستقلال وتولي الحزب الدستوري مهام الحكومة. ثم هناك عامل آخر لا بد من استحضاره وهو أن بروز الطبقة العاملة ممثلة في الاتحاد المغربي للشغل يومئذ كقاطرة للنضال الاقتصادي الاجتماعي وسلوك سياسة التصنيع من طرف حكومة عبد الله إبراهيم وبدء انتشار شعارات المد التحرري الذي كان يجتاح أقطار العالم الثالث بسرعة، كل ذلك جعل خصوم الاتحاد يوحون ويقنعون بعض الأوساط في المؤسسة الملكية بأن النتيجة الطبيعية لسياسة «التصنيع: هي ازدياد الطبقة العاملة حجما وتأثيرا، وبالتالي جر المغرب إلى نظام «ديكتاتورية البروليتاريا» الذي سيكون ضحيته الأولى هو المؤسسة الملكية».
تاسع عشر: محمد الخامس أقوى من أن يتأثر بخصوم التحرر
لم تكن هذه «التحذيرات» المغرضة لتؤثر في الملك محمد الخامس، لعدة أسباب: فمن جهة كان وطنيا حقيقيا ينظر إلى التدابير التي كانت الحكومة تتخذها على أنها لصالح الوطن وأنها من ضرورات استكمال التحرير. ثم لأنه كان يثق ثقة حقيقية في المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الذي كان مهندس إسناد كل السلطات إلى الملك محمد الخامس لكونه الضمانة الوطنية التي لا يمكن أن تخترقها القوى المعادية لتحرير المغرب واستكمال استقلاله الاقتصادي، هذا علاوة على أنه استطاع أن يدير المفاوضات مع فرنسا بالصورة التي تجمع بين المطلبين الشعبيين: عودة محمد الخامس والاستقلال. وكان الملك محمد الخامس يثق في عبد الله إبراهيم لما عرف عنه من وطنية ومن ارتباط بالمقاومة والاتحاد المغربي للشغل. وكانت هاتان المنظمتان كلتاهما قد عبرت بصفة رسمية عن ارتباطها به واعتمادها عليه كضمانة لاستكمال استقلال المغرب وتحرير اقتصاده وما تبقى من أراضيه تحت الاستعمار. وكان ولاء هاتين المنظمتين لمحمد الخامس بهذا الشكل المباشر ضدا على القيادة التقليدية لحزب الاستقلال، وفي مقدمتها علال الفاسي الذي كان زعيم الحزب في منزلة بورقيبة في تونس. وبالتالي كان هو الشخصية الوحيدة التي يمكن أن تثير التخوف. ولكن هذه الشخصية بقيت دون جناحين في الحاضر والمستقبل لانضمامها إلى القيادة التقليدية في حزبه وإعلانه الحرب على جناحي هذا الحزب (المقاومة والنقابة).
ثم إن الملك الراحل محمد الخامس كان يعي فوق ذلك أن شعبيته هي ضمان حاضره ومستقبله، وقد اكتسبها بانخراطه في العمل الوطني منذ سنة 1934 وقيادته منذ 1944 جنبا إلى جنب مع الحركة الوطنية. وقد اكتسب خبرة غنية خلال هذه المرحلة فتعرف عن كثب على أساليب السلطات الفرنسية وعملائها. والنتيجة التي استخلصها الملك محمد الخامس من كل ذلك هي أن كل شيء مرهون بالحفاظ على صورته في مخيلة الشعب كما رسمها في «القمر» حادث عزله ونفيه سنة 1953.