الجابري: «انسحاب بوطالب وبنسودة من الاتحاد كان تحت ضغوط شديدة من السلطة»
ليس ثمة شك في أن انسحاب الأستاذين بوطالب وبنسودة من الاتحاد كان تحت ضغوط شديدة من الحكم. ولكن لا بد من القول إن تصرفات بعض الإخوة في الكتابة العامة لم تكن تساعد على تخفيف وطأة تلك الضغوط على النفس. كان الأخوان البصري واليوسفي يعرفان الضغوط التي كان يمارسها الحكم على الأستاذين بوطالب وبنسودة، وأيضا كانا قد تعودا على اللقاءات الانفرادية، بحكم العلاقة القديمة التي كانت قد جعلت منهما شخصا واحدا. وكانت علاقاتهما بالأخوين عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم، سواء في الحكومة أو بعد خروجهما منها، علاقة قديمة أيضا. أضف إلى ذلك أنه لم يكن قد مر وقت كاف لإذابة الجليد، بل الستار الحديدي، الذي كان يفصل الاستقلالي عن الشوري على عهد الحماية، خصوصا وقد اتسعت الهوة وتعمقت بين الطرفين بسبب الموقف الذي أظهر به الفرنسيون حزب الشورى في مفاوضات إيكس ليبان، بوصفه حزبا معتدلا عدلت به الكفة ضد «تطرف» حزب الاستقلال.. إلخ، كل ذلك جعل العلاقات بين أعضاء الكتابة العامة المنحدرين من حزب الاستقلال والمقاومة علاقة تاريخية خاصة، بينما كانت علاقتهم بالأعضاء الآخرين المنحدرين من حزب الشورى أو الحركة الشعبية لا تزال علاقة «رسمية». في هذا الإطار كان الفريق المنحدر من المقاومة وحزب الاستقلال يعقد اجتماعات خاصة غير رسمية، تسود فيها الثقة ويزول عنها التكلف أكثر مما كان عليه الحال في الاجتماعات الرسمية للكتابة العامة جملة.
وكان لابد أن يتولد عن ذلك «شيء» في صدور الآخرين، والجميع بشر… الشيء الذي لا بد أن يكون قد برر في نفس المناضلين الشوريين ـ سابقا ـ ذلك الانسحاب التدريجي الذي أدى بهما إلى تقديم استقالتهما من الاتحاد جملة، وقد كان انسحابا هادئا صامتا. ولم يكن خافيا أنه كان بضغط، وربما بإغراء أيضا، من جانب الحكم فكان طبيعيا أن يواجه هذا النوع من الانسحاب بالجفاء والشكوك، وأيضا ببعض الإحراج المتعمد.
من ذلك أنه في فترة الانسحاب هذه كان البصري واليوسفي قد أطلق سراحهما، وكان الأخ اليوسفي قد استأنف مهمته كمسؤول عن الصحافة والإعلام الحزبي فعاد يمارس مهمة رئيس التحرير عمليا في الرأي العام. وكان في الإمكان إصدار جريدة التحرير في أي وقت لأن إطلاق سراح البصري كان بعفو ملكي، الشيء الذي كان يطلبه الأستاذ بنسودة، منذ أن جمد نشاطه هو والأستاذ بوطالب كعضوين في الكتابة العامة للاتحاد. ومع أنه كان من رأيي الشخصي استئناف إصدار التحرير وترك الرأي العام تخفيفا على مديرها وتجنبا لإحراجه إلا أن الرأي الغالب كان يرى أن توقيف الرأي العام لا مبرر له ما دام مديرها لم يطلب ذلك. وفعلا استمرت «الأزمة» واستمر صدور الرأي العام على غير رضى من مديرها الرسمي، إلى أن توصلت الكتابة العامة للاتحاد برسالة طلب فيها هذا الأخير توقيف الجريدة، يوم 23 نوفمبر 1960. كنا قد هيأنا عدد الغد، فأصدرناه وهو يحمل تاريخ 24 نوفمبر، دون ركن «كلمة الرأي العام» ولا «بالعربي الفصيح» ودون أي تعليق. فقط الأخبار الوطنية والدولية وبلاغ في أعلى الصفحة الأولى في مربع على اليسار كتبت صيغته كما يلي: العنوان: «احتجاب الرأي العام وصدور التحرير». النص: «أبلغتنا الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية أن السيد أحمد بنسودة مدير جريدة الرأي العام قد طلب من الاتحاد الوطني إيقاف هذه الجريدة، جريدة الرأي العام. وعليه فإن هذه الجريدة ستحتجب ابتداء من اليوم. هذا، وستصدر جريدة التحرير في الأيام القادمة، فانتظروا جريدتكم: جريدة التحرير». واستأنفت التحرير الصدور من جديد، ولم يتغير غير العنوان واسم المدير مع إضافة رئيس التحرير، وبقيت كما كانت إلى أن احتجبت بصفة نهائية في صيف 1963.
الفصل الخامس
واجهات المعركة التي خاضتها «التحرير»
تشكل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من قيادة وأطر وجماهير انتفاضة 25 يناير 1959، وجناح الأستاذين عبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة من حزب الشورى، وفصيل من الحركة الشعبية على رأسه المقاوم المرحوم عبد الله الصنهاجي. غير أن هذين الحزبين لم يكونا أصلا ذوي قواعد واسعة، ولم يكونا يستقطبان إلا النزر اليسير من الأطر. ولذلك بقي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يتألف أساسا من الأطر والجماهير التي أعلنت استقلالها عن حزب الاستقلال. وهكذا فالمعركة التي كانت تخوضها التحرير قبل تأسيس الاتحاد الوطني بقيت هي هي، وتتمثل في مقاومة ردود الفعل التي قامت بها قيادة حزب الاستقلال ضد حركة 25 يناير، وأيضا في التصدي لمتزعمي «القوة الثالثة» التي كانت تحارب حزب الاستقلال نفسه، أولئك الذين ابتهجوا حين وقوع «الانفصال»، متوقعين أن يكون ذلك تشتيتا نهائيا لشمل الحزب. ولكن عندما قام الاتحاد الوطني كمنظمة توحد ولا تفرق، منظمة تستقطب ليس فقط معظم قواعد حزب الاستقلال وأطره قبل «الانفصال»، بل وتنفتح أيضا على العناصر التي كان لها ماض وطني أو مساهمة في المقاومة من خارج هذا الحزب، عندما قام الاتحاد الوطني على هذا الشكل، وبدا كأنه قد سحب البساط على متزعمي «القوة الثالثة» الذين كانوا يقفون بشكل أو آخر وراء الهجمات التي استهدفت حزب الاستقلال سنوات 1955 ـ 56 ـ 57 ـ 58 والذين كانوا قد بدؤوا في الترويج لتكتل لا حزبي حول العرش، حينذاك إذن تبين لخصوم حزب الاستقلال بالأمس أن «الخطر» الحقيقي أصبح يكمن لا في هذا الحزب بل في الخلف الذي خرج من جوفه ليتجاوزه تنظيما وتأطيرا وجرأة وفكرا: الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وبما أن هذا الخلف الجديد لحزب الاستقلال قد أصبح منذ انتفاضة 25 يناير 1959 يقدم السند الجماهيري والإعلامي لحكومة عبد الله إبراهيم التي شكلت أصلا كحكومة «تناوب» داخل حزب الاستقلال في إطار الصراع بين جناحيه ـ الشيء الذي كان يراد منه أصلا أن يبرهن عن فشل الجناح «الجذري» لهذا الحزب في قيادة الحكومة (عندما أسندت رئاستها إلى عبد الله إبراهيم) كما فشل جناحه «المحافظ» في المهمة نفسها عندما أسندت إليه رئاسة الحكومة (حكومة بلا فريج) فإنه، أعني الخلف الجديد لحزب الاستقلال، قد غير الوضعية تماما. لقد تجاوز، ليس فقط الأزمة الداخلية للحزب، بل أفسد أيضا كل الخطط والحسابات التي كانت مبنية على قص «ريش» حزب الاستقلال وتحجيمه والتخلص منه. إن الوضع الجديد قد قلب الأمور رأسا على عقب. ولذلك صار من الضروري ضرب الاتحاد ولكن بوسائل جديدة. إن الوسائل التي استعملت لضرب حزب الاستقلال والتي اعتمد فيها على النعرة القبلية ضد «الهيمنة الفاسية»، والتي أسفرت عن وجهها من خلال تمرد عدي أوبيهي وتمرد الريف وبروز أحزاب ذات نغمة قبلية… إلخ، إن هذه الوسائل لم تعد مجدية قط مع الاتحاد الوطني الذي تشكلت قياداته المركزية والمحلية من جميع مكونات الشعب المغربي: من أبناء الجنوب وأبناء الريف والأطلس وأبناء السهول فضلا عن أبناء المدن، الحديثة منها والعتيقة.
كان لابد إذا من مواجهة الاتحاد الوطني بوسائل أخرى وقد تم ذلك على مستويين:
ـ على المستوى الشعبي بضرب القوتين الأساسيتين اللتين تشكلان معا حربته وهما: المقاومون والتنظيم النقابي (الاتحاد المغربي للشغل). وذلك بتحريك «الانفصال» داخل هاتين القوتين، ومساندة أو استعمال ما تبقى من حزب الاستقلال في ذلك.
ـ على مستوى الدولة بتنشيط عمل الأجهزة «الأمنية» وتنويع أساليبها المعروفة في حبك المؤامرات وشن حملات التخويف على العناصر القيادية والنشطة داخل الاتحاد من جهة، وعرقلة عمل حكومة عبد الله إبراهيم والعمل على إفشال خططها الاقتصادية، والحيلولة دون نجاحها في تحقيق شعاراتها الوطنية الجماهيرية، من جهة أخرى.
ومن هنا تحددت واجهات المعركة التي كان على الاتحاد أن يخوضها:
ـ واجهة مساندة الحكومة ومعارضة الجهاز الإداري وفضح ما يجري فيه من خروقات وتلاعبات وإبراز خطط الحكومة وبرامجها التحررية والتعريف بها في أوساط الجماهير.
ـ واجهة صوت وحدة المقاومين ومساندة مطالبهم وفضح الجانب المأساوي في الوضعية المزرية التي يعاني منها معظمهم، نتيجة الخطة التي سارت عليها الحكومات السابقة والرامية إلى تمييع صفوف المقاومين وتصفية وجودهم كشريحة خاصة اكتسبت الشرعية كقوة وطنية يجب أن يكون لها وزن يتناسب مع الدور الأكبر الذي قامت به في معركة إعادة الملك إلى عرشه وتحقيق استقلال البلاد. وقد وجهت السهام ضد هذه الشريحة من مختلف الجهات وبأساليب متعددة، من جملتها تشكيل ما سمي بـ«الجبهة الموحدة للمقاومة المغربية» من طرف قيادة حزب الاستقلال، كرد فعل «انفصالي» للتشويش على «جمعية المقاومة وجيش التحرير» التي أسندت رئاستها سنة 1956 إلى عضو قيادة جيش التحرير الأخ اليوسفي.
ـ واجهة الدفاع عن وحدة الطبقة العاملة ضدا على «النقابات الحرة» التي أسستها بعض العناصر القيادية في حزب الاستقلال كـ«انفصال» عن الاتحاد المغربي للشغل، وهي التي ستتحول إلى «الاتحاد العام للشغالين» الذي أسس رسميا في 20 آذار / مارس 1960، (كان الاتحاد المغربي للشغل قد تأسس في 20 آذار / مارس 1955).
على هذه الواجهات الثلاث الكبرى كانت التحرير تخوض معاركها اليومية. وفي إطار هذه المعارك وفي خضمها تم ما تم من صنوف القمع ضد الاتحاد وصحافته وتنظيماته. والنصوص التي ننشرها في هذا الكتيب تعكس بصدق ليس فقط وعي صاحبها، كاتب هذه السطور، بل تعكس أيضا وعي المرحلة بأكملها، باعتبار أن كاتبها كان يعبر من خلالها على وجهة نظر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قيادة وجماهير.