الجابري: «الحكومة قررت تأسيس بنك المغرب لإصدار العملة وتوقيف تحويل الأموال من المغرب إلى فرنسا»
والواقع أن فرنسا قد اضطرت إلى التخفيض من فرنكها نظرا للظروف والأحوال التي أصبح فيها اقتصادها ونظرا لمقتضيات إنقاذ هذا الاقتصاد. ولم يكن للمغرب حينئذ أية فائدة من التخفيض لأن هذا التخفيض وقع بناء على مقتضيات الاقتصاد الفرنسي وحده دون مراعاة الاقتصاد المغربي.
وتمت عملية فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي، وبذلك خطت الحكومة أول خطوة في طريق تحرير اقتصاد بلادنا. وكان لهذه العملية ردود فعل قوية من جانب الأوساط الاستعمارية والاحتكارية في المغرب وفرنسا، واغتنمتها الرجعية المحلية فرصة لمهاجمة الحكومة وسياستها الاقتصادية وسخرت كل أجهزتها التي هي في الحقيقة أجهزة للشعب لمحاربة الحكومة ومشاريعها. ولكن الحكومة كانت قد اختارت الطريق وعرفت أن هذه الطريق الذي اختارته هو الوحيد الذي يمكن من إنقاذ اقتصاد المغرب من التبعية، فاستمرت في خطتها غير عابئة بهجومات الاستعمار وطروحات الرجعية المحلية، وأخذت منذ ذلك الوقت تعد العدة وتهيئ الوسائل الضرورية التي يستلزمها فصل اقتصاد المغرب عن الاقتصاد الفرنسي وبناء اقتصاد وطني متحرر لا يخضع غلا للاعتبارات التي تقتضيها ظروفنا كشعب وكدولة.
عكفت الحكومة على إعداد الوسائل التي ستمكن من تحرير اقتصاد المغرب لأنها كانت تعلم سلفا أن تحرير الاقتصاد يقتضي دعائم يرتكز عليها هذا التحرير حتى لا يكون هناك رد فعل استعماري يكون ضغطا على الدولة ويشل اقتصادها. وهكذا قامت الحكومة بتهييء مشاريع وتنفيذها: فأسست بنك المغرب لإصدار العملة، ملغية البنك المخزني الذي كانت تشرف عليه فرنسا وتوجهه أبناك فرنسا. وكان تأسيس بنك المغرب خطوة مهمة نحو تحقيق التحرر الاقتصادي مما جعل الاستعمار يتيقن من أن الحكومة ماضية في طريقها التحررية، فشن حربا هوجاء عليها. وأراد أن يضغط عليها بإيقاف حساب العمليات بالنسبة للمغرب وجند صحافته وعملاءه في الداخل لمهاجمة الحكومة كما جندت الرجعية كل قواها الفاشلة للنيل من الحكومة ومشاريعها، وكلنا لازلنا نذكر كيف كانت صحف الرجعية تشن حملاتها على الحكومة أيام تأسيس بنك المغرب. ولكن الحكومة المؤمنة بثقة الملك فيها وبمساندة الشعب إياها سارت في الطريق الذي اختارته ولم تهتم قط بأقاويل الرجعية المحلية. وكان ردها عنيفا على عملية إيقاف حساب العمليات بالنسبة للمغرب إذ أصدرت الحكومة قرارا بتوقيف تحويل الأموال من المغرب إلى فرنسا.
وتابعت سيرها في إعداد المشاريع وإخراجها للوجود: فأسست بنك التنمية الاقتصادية وبنك التجارة الخارجية، كما أسست صندوق الإيداع والتوفير، وأصدرت عدة قوانين منها قانون تنظيم شؤون المقاولات وقانون المعاملات العقارية مع الأجانب. ولما اكتملت هذه الوسائل للحكومة قررت تحرير الاقتصاد نهائيا من التبعية للاقتصاد الفرنسي وأعدت تدابير اقتصادية. وكانت معركة هذه التدابير معركة بين الحكومة من جهة وبين الاستعمار وعملائه وسماسرته في الداخل من جهة أخرى. والقراء لا يزالون يذكرون هذه المعركة التي شاركت فيها هذه الجريدة بنصيبها. وكانت محاولات، وكانت مناورات، وكانت مؤامرات مع الأجانب، وكان الشهر الموعود وكان وكان.. وكل ذلك أصبح في خبر كان.
وعلى الرغم من كل ما كان، فقد انتصرت الحكومة بفضل ثباتها وصمودها وبفضل تأييد الشعب لها ومساندته إياها، وأولا وأخيرا بفضل ثقة صاحب الجلالة فيها. وخرجت التدابير الاقتصادية للوجود، وخرج المغرب من منطقة الفرنك وكون المغرب عملة وطنية خاصة به أساسها الدرهم. وحددت قيمة الدرهم بما تقتضيه ظروفنا الاقتصادية ومصالحنا الوطنية لا بما تقتضيه ظروف اقتصاد غيرنا أو مصالح وطن غير وطننا. وانهزم أعداء التحرر انهزاما كاملا.
ولكن، وإن كان أعداء التحرر هؤلاء قد انهزموا في محاولاتهم العديدة لمنع التدابير الاقتصادية من الخروج إلى الوجود، فإنهم لم يلقوا السلاح بعد ولازالوا يحاولون عرقلة تنفيذ هذه التدابير مسخرين بعض عملائهم في الإدارات في هذه السبيل. ولكن مهما تكن مقاومة أعداء التحرر للتدابير التي اتخذت فإنها مقاومة محكوم عليها سلفا بالفشل والإخفاق، لأنها معارضة لإرادة الشعب ولرغبات الشعب ولاتجاه الشعب. وكل شيء ضد الشعب لا يمكن إلا أن يفشل ويخفف أمام إرادة الشعب لأن إرادته من إرادة الله لا تقهر».
أما المقالة الرابعة فقد كانت بعنوان «نحو إصلاح زراعي»، وقد نشرت يوم 16 نوفمبر 1959 وهذا نصها:
«من المسائل المسلم بها أن بلادنا بلاد فلاحية قبل كل شيء، وأن ازدهار اقتصادنا وتقدمه يتوقف كثيرا على ازدهار الفلاحة وتقدم وسائلها. وإذا ألقينا نظرة سريعة على الأراضي الفلاحية في المغرب أيام الحماية وطيلة السنوات الأولى من الاستقلال، نجد أن هذه الأراضي تنقسم إلى قسمين: قسم خصب يفلح بوسائل عصرية ويعطي إنتاجا قويا وهذا القسم هو بيد المعمرين يستغلونه لصالحهم الخاص. والأراضي التي بأيديهم هي بالطبع أراض من الشعب وإليه، اغتصبتها منه سلطات الحماية تحت ستار المصلحة العمومية وسلمتها لهؤلاء المعمرين الأجانب. والقسم الثاني من أراضي بلادنا أقل خصوبة من الأول يوجد بيد الفلاحين المغاربة يفلحونه بوسائل عتيقة ولا يعطي من الإنتاج إلا قدرا ضئيلا قلما يكفي مؤونة الفلاحين. والمزروعات في هذا القسم كثيرا ما تتعرض لأخطار عديدة كالجفاف والجراد والرياح العاصفة وغير ذلك.
ولما كانت نسبة الزيادة في السكان بالبادية مرتفعة ولما كانت الوسائل الفلاحية قديمة غير متطورة، فإنه ينتج عن ذلك أن يبقى آلاف من شباب البادية بدون عمل، وبالتالي في فقر مدقع وحاجة مستمرة، الأمر الذي يجعلهم يهاجرون دائما إلى المدن طالبين العمل، وهذا ما يجعل البطالة في المدن تستفحل سنة بعد سنة. وهكذا أصبحت مشكلة البطالة من المشاكل العويصة التي تستلزم حلا جذريا عاجلا.
والواقع أن مشكلة البطالة يجب أن تعالج من الأساس. وهنا تأتي مشكلة البادية المغربية في الصف الأول. فالحد من البطالة يقتضي قبل كل شيء الحد من هجرة سكان البادية إلى المدن. وهذا يتطلب إيجاد العمل للشباب ورجال البادية أي يتطلب القيام بإصلاح زراعي شامل يستوعب جميع السواعد وجميع الطاقات البشرية في البادية.
وهكذا اتجهت حكومة صاحب الجلالة إلى التمهيد للقيام بإصلاح زراعي شامل فبدأت بتوزيع الأراضي على الفلاحين الصغار وبتصحيح عملية الحرث وتشجيع التعاونيات الفلاحية.
توزيع الأراضي على الفلاحين: تكتسي عملية توزيع الأراضي مظهرين: توزيع الأراضي المخزنية الصالحة للزراعة على صغار الفلاحين ليقوموا باستثمارها مقابل نسبة مئوية ضئيلة يدفعونها للدولة، وتنخفض هذه النسبة كلما ارتفع الإنتاج، وهذا سيساعد الفلاحين الصغار ويشجعهم على بذل مجهوداتهم للحصول على إنتاج أكبر، خصوصا وهم مهددون بفقدان هذه الأراضي التي وزعت عليهم إذا هم لم يعتنوا بها الاعتناء اللازم، وإذا أصبح الإنتاج أقل من المستوى العادي. وقد قام صاحب الجلالة في هذه السنة عدة مرات بتوزيع أراض من هذا النوع بمختلف أقاليم البلاد.
أما المظهر الثاني الذي تكتسبه عملية التوزيع هذه فهو استرجاع الأراضي المغصوبة وتوزيعها على صغار الفلاحين بنفس الطريقة التي توزع بها أراضي الدولة. والحقيقة أن عملية استرجاع الأراضي من مغتصبيها هي عملية جريئة ثورية قامت بها حكومة الرئيس عبد الله إبراهيم. وتدخل هذه العملية في خطة الحكومة الرامية إلى تحرير البادية المغربية من الاستعمار الفلاحي والإقطاع والاستغلال. وقد تم لحد الآن استرجاع اثنين وأربعين ألف هكتار من أراضي الجماعات، تلك الأراضي التي كان قد استولى عليها المعمرون ظلما وعدوانا واغتصابا. ولم تقف حكومة الرئيس عبد الله إبراهيم عند هذا الحد، بل إنها تبذل الآن المساعي اللازمة لاسترجاع البقية الباقية من الأراضي المغصوبة والتي توجد في يد المعمرين وهي تبلغ 350.000 هكتار.
تصحيح عملية الحرث: من المعلوم أن صاحب الجلالة أصبح منذ الاستقلال يدشن كل سنة عملية الحرث، كما أن حكومته أصبحت كل سنة تعد البرامج والوسائل لتطوير الفلاحة وتصنيعها تدريجيا وذلك باستعمال التراكتور في الحرث، عوضا عن المحراث القديم، واستعمال آلات الحصاد بدل المنجل. ومرت الآن على نشوء عملية الحرث أكثر من سنتين وكان من الطبيعي أن تدخل هذه العملية في طور التجربة خلال السنتين الماضيتين. وقد تبين بعد هذه التجربة أن هناك أخطاء يجب تجنبها وتداركها وهذا ما عمدت إليه حكومة عبد الله إبراهيم حيث قررت في هذه السنة تصحيح عملية الحرث هذه حتى تتلافى الأخطاء السابقة وحتى تعود بالفائدة المرجوة.
تشجيع التعاونيات: ومن الوسائل الضرورية لتقدم الإنتاج الفلاحي وتشجيعه إنشاء تعاونيات فلاحية يتمكن الفلاحون بواسطتها من تصريف إنتاجهم حتى لا يقعوا في شرك المستغلين الانتهازيين. وهذه التعاونيات شيء جديد بالنسبة للفلاحين المغاربة، وقد لقيت شيئا من الصعوبة في تطبيقها كشأن كل جديد غير مألوف، ونظرا أيضا لكون الفلاحين المغاربة لم يكتسبوا من قبل فكرة التعاون، الشيء الذي بدونه يتعطل سير التعاونيات، ونظرا لأهمية هذه التعاونيات والفائدة التي ستعود بها على الفلاحين أنفسهم وعلى الاقتصاد الزراعي في البلاد قررت الحكومة تشجيعها تشجيعا كبيرا وتسهيل مهمتها. وقد بين صاحب الجلالة في الخطاب الأخير الذي ألقاه في مراكش بمناسبة توزيع الأراضي بالأقاليم الجنوبية، بين جلالته الخطوط العريضة لسياسة حكومته الفلاحية وأشار إلى عملية التوزيع التي قام بها جلالته مرارا كما أشار إلى عملية الحرث وإلى تشجيع التعاونيات.