الثقافة العبرية تربويا
الاعتراف بالمكون الثقافي العبري ضمن الثقافة المغربية لا يرتبط بأية ظرفية سياسية أو ديبلوماسية مهما كانت. ذلك لأن المغاربة اليهود كانوا في المغرب منذ قرون قبل العديد من المكونات الثقافية الأخرى التي أتت لاحقا، ومساهماتهم الفكرية والفلسفية والفنية والعلمية أكبر من أن يغفلها كل مطلع على التاريخ السياسي والثقافي والفلسفي للمغرب. لذلك فعندما تخطو وزارة التربية والتكوين خطوات في اتجاه المصالحة مع هذا المكون الثقافي إنما هي خطوة أيضا للمصالحة مع الذات، ضدا على محاولات كثيرة لم تنقطع لطمس الحقائق الصميمية للذاكرة المغربية.
قليلون هم الباحثون في الفلسفة الوسطوية الذين يعرفون حجم التأثير والتأثر الذي حصل بين العلماء والفلاسفة المغاربة بمختلف دياناتهم ومذاهبهم. فإذا كان يحق لنا كمغاربة عبر التاريخ أن نفتخر بكون جامعة القرويين تعد من أقدم جامعات العالم، فإنه من غير الصواب أن لا نعترف أيضا بأن المكون العبري كان جزءا من هذا الصرح التاريخي والعلمي الكبير. بل إن المجد الذي عرفته الثقافة المغربية في الأندلس لم يكن ليكون لها أي تأثير على أوروبا الوسطوية لو لم تكن مساهمة العلماء والفلاسفة والتلموديين اليهود بارزة ومؤثرة.
هنا يصبح غريبا جدا أن يعرف تلامذتنا وطلبتنا فلاسفة مغاربة وأندلسيين، أمثال ابن رشد وابن طفيل وابن باجة وابن زهر ولا يعرفون زملاء لهم ليسوا أقل منهم اجتهادا وحجة وحكمة، أمثال ابن ميمون الفيلسوف وأبو زكرياء يحيى النحوي المشهور، وأدروتيال أبراهام المؤرخ، والتلمودي موشي بيرديكو قاضي قضاة في بداية الدولة العلوية وغيرهم.
الانفتاح التدريجي لمنظومتنا التربوية على الثقافة العبرية لا ينبغي أن تشوش عليه السجالات الظرفية للسياسة، أو أن يعوقه «صراخ» الاستقطاب الإيديولوجي الذي شرع فيه بعض تجار «الهوية النقية». فمثلما ناهضوا الأمازيغية وما زالوا يفعلون باسم هذه الهوية، هاهم يناهضون العبرية، ويصرون على «أدلجة» كل نقاش حولهما بل وتخوين كل دعوة للاعتراف بهما، مع أن هذا النقاش هو في الحقيقة تفكير بصوت مرتفع وهذه الدعوة هي «مونولوج»، أي حوار الذات مع نفسها بصوت لا تمنعه حشرجة الخجل.
والحديث عن عدم الالتفات لصراخ تجار الهوية يعني الإقدام على خطوات لا تحصر هذا الانفتاح على الثقافة اليهودية في الشق التاريخي والأنثربولوجي، لكون مساهمة هذه الثقافة في المعرفة الإنسانية الحديثة والمعاصرة أكبر من أن ينكرها عالم مطلع. وهو ما يعني أنه بانفتاحنا هذا لن ننفتح على ثقافة ولغة ميتتين بل على لغة طورت نفسها بشكل يجهله أغلبيتنا، وعلى ثقافة فرضت مكانتها ضمن خريطة المعرفة العالمية، وتكفي العودة لعدد اليهود الحائزين على جائزة نوبل في مختلف الميادين لنعرف بأننا سنحسن لأنفسنا وأننا سنزيل حجاب النسيان عن ماضينا وحجاب النكران عن مستقبلنا.
من هنا لا مبرر لأن يتم استغلال الظرفية السياسية الحالية لتعميق التعاون العلمي والأكاديمي بين المغرب ومختلف المنظمات اليهودية، بما في ذلك تلك الموجودة في إسرائيل، وأن الحاجة قائمة الآن لاعتماد شعب جامعية متخصصة في اللغة العبرية، وأيضا إرسال طلبة كل سنة بمنح دراسية للجامعات الإسرائيلية لتعلم اللغة العبرية، سواء القديمة أو الحديثة، وهؤلاء يمكن أن يشكلوا لبنة قوية لتصالح حقيقي بين المغرب وثقافته.