الثعلب والبراغيث وداعش
بقلم: خالص جلبي
جاء في الأساطير أن الثعلب تضايق يوما من تزاحم البراغيث في فروته، فهداه ذكاؤه إلى طريقة يتخلص بها من الحك وبلاء البراغيث. غطس في نهر جار، وقد حمل في فمه قطعة جلد يابسة. وبهدوء وتدريجيا أدخل جسده المحشو بالبراغيث في مجرى النهر. هربت البراغيث من الماء طلبا للنجاة، مثل ركاب أي سفينة تغرق يهرعون إلى أطواق النجاة. هبط الثعلب أكثر في الماء، متوخيا إظهار رأسه وقطعة الجلد اليابسة المثبتة بين فكيه. هرعت البراغيث إلى المكان الجاف فلم تجد في النهاية، إلا خشبة النجاة في قطعة الجلد الجافة بعيدا عن البلل. وحين ازدحم موكب البراغيث فوق الجلدة، غطس الثعلب الماكر رأسه وترك قطعة الجلد للماء. وهكذا بضربة واحدة ذكية تخلص من معظم البراغيث، التي تعج في فروته.
إنها خطة ذكية كما نرى، وهو ما فعله الأمريكيون في معركة الموصل مع براغيث داعش؛ فهم من صنعوهم بمباركة من بقايا مخابرات صدام المصنوع والمشنوق أصلا بأيديهم. وهم من يجمعون هذه البراغيث ليوم الحشر، فيقتلوهم بيد الحقد الشعبي (عفوا الحشد الشعبي)، وهم يزعقون نحن أولياء دم الحسين وسنقتل أحفاد يزيد، لقضية تعفنت بعد مرور 1300 عام عليها بفعل تقادم أي قضية، ولكن الأساطير عندها قدرة على حشد المغفلين في كل مكان، وهو الزعم نفسه لمعاوية للثأر لمقتل عثمان، وبآية من القرآن من سورة «الإسراء»، «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا»، فقال معاوية: فأنا ولي الدم، ولي السلطان.
أو يقتلوهم بيد إخوتهم العراقيين من جيش عرمرم، بلغ 60 ألفا ويزيد، وبيد 40 ألفا من الأكراد الذين يدعمهم أولياؤهم من الأمريكيين، بخيل ورجال وطائرات وخبراء وذخائر، كله مقابل ستة آلاف من الدواعش المتحصنين في مدينة الموصل.
المنظر مضحك أليس كذلك؟ والناس يظنون أن الأمر جد وليس بالهزل، فداعش دحرت دولا وهزمت الجيش العراقي، وامتدت حتى بادية الشام فطحنت آثار تدمر ومعها آثار جريمة سجن تدمر، الذي تفننت عائلة السنوريات «الأسد» في إهلاك أرواح عشرات الآلاف من الشباب السوري.
وهم لا ينتبهون إلى أن الأمريكيين صنعوهم على عينهم، وسمحوا لهم بالتمدد، وأطمعوهم في خرافة مزعومة (عفوا خلافة). وظن هؤلاء المغفلون أنهم أصبحوا قوة عظمى، وبدؤوا يوزعون الولايات بين طبرق والمخلا وتدمر ومنبج والباب في يد شباب غر، يذكر بخوارج العصور القديمة.
حتى إذا نضجت الثمرة، وحان قطافها، اتخذت أمريكا قرارها بالقضاء على فرانكنشتاين ودوللي. فكما خلق فرانكنشتاين من خلقه حتى تخلص منه، وكما فعل الطبيب الأسكتلندي بدوللي، النعجة التي أتى بها إلى العالم على زمير ونفخ، ليقتلها بعد أن تبين أنها ضد مسار الخليقة. كذلك الحال مع براغيث داعش، فقد قامت قيامتهم، وبارت دولتهم الخرافية، وانتهى سحرهم.
مصير داعش من أكوام المغفلين من كل مكان في العالم محسوم؛ فالحرب تكنولوجيا، ولم تعد شجاعة وسيوفا وضربا بالحراب. هذه النتيجة يفهمها العلماء والخبراء ويجهلها المغفلون من الشباب المسلم، وكتبت أنا في ما سبق عن «فيرنر هايزنبيرغ»، العالم الفيزيائي، حين اجتمع بصديقه «إنريكو فيرمي»، وأخبره عن الحرب القادمة، فوجه إليه سؤالا عن مصيرها؟ كان جواب هذا العاقل أن هتلر سيهزم «انتبهوا الحديث في غشت 1939، قبل اندلاع الحرب بشهر»، لأن الحرب تكنولوجيا، وهتلر يعلم ذلك، ثم عقب هذا الرجل الفهيم: ولكن يا صديقي إنريكو متى كانت الحرب عقلانية؟
ذلك أن الحرب، حسب مفاهيمنا، ـ نحن من ندعو إلى السلام ـ هي ثلاث، جنون وجريمة وإفلاس أخلاقي، وما زال البشر يمارسونها، لأنهم في التكنولوجيا في العصر الحديث، أما العقليات فما زالت في العالم القديم عالم الغابة والهراوة، كما نص على ذلك الروسي «ميخائيل غورباتشوف»، في كتابه «البيريسترويكا».
أريد أن أقول إن معركة الموصل والرقة وبقية زعران داعش وفاحش، سيقضى عليهم مثل براغيث الثعلب، باستثناء أمر واحد سأذكره وهو الأخطر.
ومما أتذكر من خبير من حكومة كلينتون، وهو رجل استخبارات حاليا، قال في مقابلة له مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية، إن الهجوم على تنظيم الدولة من الجو لن يقضي عليه. وهكذا فقد جروا للمعركة من أبناء المنطقة، هكذا تضرب عاصفة الجنون المذهبي، ونعيد حروب الثلاثين عاما من أوروبا في أرض الرافدين.
هكذا أتى الأمريكيون بصدام وهكذا شنقوه، وأتوا بعده بمن هو أتعس وألعن؛ فولد من رماد صدام ألف صدام؛ فلا يختلف نوري عن صالح، ولا مصدوم عن صدام.
يبقى عنصر لم ينتبه إليه اليانكي جيدا، أو هم حسبوه بطريقتهم على الحاسوب، فهو أن القتل يأتي بالقتل، وحين يدخل الجراح الخائب على سرطان في المعدة أو الكولون فيقص؛ قد يهيأ له أنه انتهى من السرطان، ليكتشف بعد أقل من سنة أن السرطان ضرب في مكان آخر فتورم الكبد، وعشش في الرئة، ليحاول من جديد قص الكبد أو قطعة منه، ليموت صاحب السرطان؛ وهكذا ففكر داعش سوف يضرب المنطقة مثل السرطان فينتشر في العالم؛ فيضرب ما لم يتوصل خبراء الفكر والعلم والسلم إلى اكتشاف الترياق المناسب، من حقن العدل والرحمة والحب، فيتعافى الجسد الإنساني.
الكل غافل عن جوهر الكون ـ إلا من رحم ربك ـ أن قواعد ثلاث يتأسس العالم عليها، فهو كون مبني بالحق، ولم يبن غفلة ولا عبثا ولا سدى.
أنه ليس «أرخص من العدل»، والأمريكيون لا يملكونه؛ فهم فرعون العالم الجديد يحل المشاكل بالقتل.
وأنه «ليس أعظم من الرحمة»، والأمريكيون مثلهم الأعلى جند الرومان فلا رحمة، كما فعل لورانس وهو يصيح بالعربان الذين جمعهم في أسطورة الثورة العربية المخزية، أن لا يبقوا أسيرا من الأتراك.
والثالثة أن «ليس أروع من الحب» في العالم، والإنسان يولد في محضن الحب في أقدس لقاء بين رجل وامرأة، والأمريكيون عندهم الحب الأعظم للدولار المتهاوي. والبلد غارق في الدين وبيع السلاح.
العدل والرحمة والحب هذا هو مثلث الكون وعليه يقوم، ولكن كلماتنا تبقى للتاريخ، وبعد مذابح وأنهارا من دماء، سيصلون إلى اليقين الذي يقول: لن يصل العالم إلى السلام، إلا بالحب والعدل والرحمة.
نافذة:
مصير داعش من أكوام المغفلين من كل مكان في العالم محسوم فالحرب تكنولوجيا ولم تعد شجاعة وسيوفا وضربا بالحراب