الحسين الزاوي
أعادت التحريات التي باشرها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي في بيت الرئيس السابق دونالد ترامب، بأمر من وزارة العدل الأمريكية، إلى الواجهة مرة أخرى معضلة التوظيف السياسي للعدالة من طرف السلطة التنفيذية، وجماعات الضغط والمصالح في الدول الغربية التي طالما قدمت نفسها نموذجا رائدا على المستوى العالمي، في ما يتعلق باستقلالية السلطة القضائية في مواجهة الانحرافات السياسية المرتبطة بالتعسف في استخدام السلطة، كما فتحت النقاش مرة أخرى حول أسس دولة القانون، سيما مبدأ الفصل بين السلطات الذي يمثل حجر الزاوية في الممارسة الديمقراطية للدولة الحديثة، وفق التنظيرات التي قدمها مونتيسكيو في كتابه «روح القوانين»، والذي يعتبر أحد المصادر الرئيسية التي بُنيت عليها الديمقراطية الأمريكية منذ انطلاقها على أيدي الآباء المؤسسين.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التحريات والتحقيقات نفسها؛ إذ يبدو من الوهلة الأولى أن العدالة لديها كل الصلاحيات التي تخول لها القيام بعملها المستقل بناء على الدستور والقوانين سارية المفعول، لكنها تكمن في أعين المراقبين في حالة الاحتقان السياسي التي تشهدها أمريكا، منذ الانتخابات الرئاسية السابقة، التي اتهم فيها ترامب الديمقراطيين ورموز الدولة العميقة بتزوير تلك الانتخابات لصالح الرئيس الحالي جو بايدن؛ الأمر الذي يجعل أتباع ترامب ينظرون إلى هذه التحقيقات، التي تمثل سابقة في أسلوب التعامل مع الرؤساء السابقين لأمريكا، على أنها تدخل في خانة التوظيف السياسي للعدالة، ويتحدثون عن إمكانية دخول البلاد في فصل غير مألوف من الصراع السياسي بشأن وظيفة السلطة القضائية.
ونعتقد في هذه العجالة بأنه من أجل التوصل إلى فهم أفضل لمعضلة التوظيف السياسي للعدالة في أمريكا وفي غيرها من الدول الغربية، يتوجب علينا الحرص على تحديد المعنى الأساسي، ومن ثم المنطلق الفكري الذي بُني عليه مبدأ الفصل بين السلطات في الأنظمة الديمقراطية الحديثة؛ إذ يشير هنري بينا رويز إلى أن الفصل بين السلطات يعتبر أساسيا بالنسبة إلى مونتيسكيو، لتجنب النزعة الاستبدادية، فمن جهة أولى يعتبر التمييز بين السلطات ضروريا في اللحظة نفسها لاستقلالية عمل هذه السلطات كل منها على حدة ولفعاليتها الوظيفية، ومن جهة ثانية، فإن الفصل بينها يضمن أن تكون تلك الاستقلالية وتلك الفعالية الوظيفية أقوى.
ويتمثل هذا الفصل في القيام بتوزيع الوظائف والسلطات على أشخاص مختلفين، لكن هذا الفصل ينخرط في سياق أفق قائم على الربط بين السلطات، وهو ربط يتم التعامل معه كشرط لتناغم وانسجام القوة العمومية، وبالتالي فعندما نقول إن السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) يجب أن تكون منفصلة، فذلك يعني في المقام الأول وجود إرادة في أن تُمنح هذه السلطات لأفراد ومجموعات مختلفة، كما كان الوضع عليه في إنجلترا في منتصف القرن الثامن عشر.
ومن الواضح أن مشكلة ترامب مع العدالة الأمريكية، التي بدأت تشهد تطورات أخرى يرجح المتابعون أن تكون أكثر مأساوية خلال الشهور المقبلة، لا تمثل حالة معزولة في الديمقراطيات الغربية بالنسبة إلى التوظيف السياسي للعدالة، فقد سبق للنخب السياسية في فرنسا مثلا أن وظفت سلاح العدالة ضد رموز اليمين المتطرف من أجل التأثير على نتائج العديد من الانتخابات، كما أن أبرز الأمثلة على التوظيف السياسي للعدالة شهدها التاريخ المعاصر بعد نهاية الحروب والثورات، سيما في الحالات التي جرى فيها الإصرار على تغيير أنظمة الحكم بالقوة؛ حيث قام المنتصرون بتوظيف متعسف للسلطة القضائية من أجل تصفية حساباتهم السياسية مع خصومهم السابقين.
ونستطيع أن نخلص إلى أنه وبصرف النظر عن طبيعة ومرجعية أنظمة الحكم في الشرق والغرب، فإن التوظيف السياسي للعدالة ما زال يمثل إحدى الخصائص الأساسية الملازمة للدولة القومية الحديثة، أما المبدأ المتعلق بالفصل بين السلطات فلا يعدو أن يكون جزءا صوريا من الديباجة التي يضعها كتاب الدساتير المعتمدة في مختلف الأنظمة، على غرار مقولة السيادة للشعب التي تجعل كل طرف يدعي أنه يمثل الجزء الأصيل الذي يمثل هذا «الشعب» خارج المؤسسات التنفيذية، التي تعمل على إنفاذ القانون.