شوف تشوف

الرأيالرئيسية

التوحيد في مواجهة الوثنية

آخر سور القرآن هي المعوذات الثلاث؛ فأما الأولى فهي التعريف بالله الصمد الذي لم يلد ولم يولد.. وأما الثانية فهي الاستعاذة من شرور العالم، وثمة مخلوقات تنفث الشر على شكل معقد، والحذر البارع من كل تميز يفجر أحاسيس الحسد. أما الثالثة فهي المزيج الثلاثي من مفهوم الرب ـ الملك ـ الإله (قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس)، ولكن ما الفرق بين الثلاثة؟ نحن هنا نرى السلطات الثلاث في الواقع، من تنفيذية وقضائية وتشريعية.

كنت في لقاء تلفزيوني حين تحدثت عن مفهوم التوحيد، هل هو الإقرار بوجود الخالق، أم شيء آخر؟ القرآن يجيبنا في مواضع عدة ننتقي منها آخر سورة «العنكبوت»، وهي مكررة على شكل سؤال للمشركين ثلاث مرات.. من خلق السماوات والأرض؟ وفي سؤال ثان: من سخر الشمس والقمر دائبين؟ وفي سؤال ثالث: من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها؟ يجيب المشركون: ليقولن الله (ليقولن بالتشديد). وكانت المقولة بين الأعراب إن الأثر ليدل على المسير، وإن البعرة تدل على البعير، فكيف بسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على وجود الخالق العظيم؟ فهذه مسألة مبتوت فيها منذ زمن بعيد.

إذن لم تكن مسألة الاعتقاد بوجود خالق، هي موضوع النزاع.. فما هي المسألة التي جرى حولها نزاع كبير، أن لا تشركوا بالله شيئا؟ وما هو الشرك إذن؟ ولماذا اعتبر القرآن أن الله يغفر الذنوب جميعا للعباد أن لا يقنطوا من رحمته، ولكنه لا يغفر أن يُشْرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؟

نحن نعرف عن آلهة الأولمب في اليونان أنهم كانوا يعتقدون بآلهة شتى يرأسها زيوس العظيم، أفروديت، آلهة الجمال، بوسايدون، إله البحار، هرمز، إله الرحلات والحظ والقمار. كانوا يعتقدون بمئات الآلهة بدون حرج، حتى أن الآلهة شاركت في ملحمة الإلياذة والأوديسة في حرب طروادة.

لماذا إذن كل هذا العناء والمصادمات إلى درجة التفكير بقتل النبي، كما قتل بنو إسرائيل الأنبياء على رواية القرآن: (وقتلهم الأنبياء بغير حق)؟

في قناعتي أنه لو كان الجدل يدور حول أرباب في السماوات لا دخل لهم في حياة الناس اليومية، لمرت الأمور بسلام، وربما ضحك القوم من فلسفة هذا الذي يتحدث عن آلهة في السماوات تتحاور أو تتنازع.. أي أن مسألة التوحيد فكرة خيالية بعيدة عن الواقع المعاش.

كان نقطة الصدام هي: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عُجَاب. التوحيد إذن مسألة أرضية مرتبطة بحياة الناس، إن مصدر الخلق والتدبير والتشريع والأخلاق واحد. هو بكلمة مختصرة التدخل في تنظيم حياة الناس ووضع لائحة أخلاقية لما يجوز ولا يجوز، لما هو محرم وما هو محلل، حرام الزنا، الربا الخمر، والميسر، وواجب تطبيق الشورى في السياسة ونقل السلطة السلمي، فكلها عناوين من لائحة قائمة بالحرام والحلال.

إنها قائمة مزعجة كما نرى، إذن التوحيد مسألة سياسية، وليس مسألة تيولوجية غيبية لا علاقة لها بحياة الناس. وتتكرر صور الصدام بين الرسل في التاريخ وأقوامهم كما جاء في سورة «إبراهيم» بتعبير: (فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب).

إذن لم يدر الجدل حول وجود خالق من عدمه، بل وجوده الفعال بين الناس وعلاقة الخالق بالمخلوقات. وبمراجعة السور القصيرة الأولى التي تنزلت، جرت إدانة الأغنياء المستكبرين والدفاع عن المظلومين والبائس الفقير والمسكين واليتيم. هنا يظهر التدخل واضحا في إرساء قاعدة أخلاقية وعدالة اجتماعية. هنا سينتفض أصحاب الامتيازات، فيقولوا (نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد). ويرد النبي فيقول: (يا قوم إني لكم نذير مبين أن لا تعلوا على الله). حتى الإنكار على النصارى في ذلك الوقت كان في نفي ألوهية البشر “عيسى”، حتى لو كانوا رسلا أولي العزم، فيردد القرآن (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ولا أقول لكم عندي خزائن الله أو إنني ملك أو أعلم الغيب). النبي حين يحمل الرسالة للتبليغ فيصبح رسولا يتلقى الوحي من مصدر سماوي يحيط بالسر وأخفى، فيوحي إليه ما يشاء من معدن الحكمة لتوجيه خطى المجتمع نحو العدالة، ونسف أي قاعدة لبشر أن يرتفعوا إلى مقام الألوهية؛ فالله هو في السماء إله وهو في الأرض إله، وهو العليم الحكيم. هنا يشعر أصحاب الامتيازات بالخوف والقلق من تبخر هذه المزايا، فيعلنوا الحرب على هؤلاء المزعجين مقلقي النوم العام، بل تصفيتهم إن لزم الأمر.

من بوركينا فاسو نرى شابا متحمسا يقفز إلى السلطة، ويبدأ في نشر الوعي بين قومه حول التخلص من ديون العالم الرأسمالي ببناء الذات. لم يطل الأمر كثيرا، فقد سخروا له أقرب الناس إليه يغتاله، وترجع الأمور إلى ما كانت عليه من أمة تكدح وتعطي عرق الجبين لرأسمالي مستكبر.

هذه هي المسألة باختصار التحرر من كل قوة إلا قوة الله والاستعانة به وبناء الذات، وأن يتم بناء الفرد أخلاقيا، وصولا إلى المجتمع العادل ومنه إلى بناء علاقات أممية لنشر السلام بين الأنام.

تكررت هذه المفاهيم عبر التاريخ، حملها المصلحون على صورة أنبياء بررة وقديسين رائعين، ولكن الانحراف يتكرر وحركة الإصلاح تذوي، ثم تشتد على يد رسول آخر. وهكذا يمضي جدل التاريخ بين الخراب والعمار، بين الشرك والتوحيد، بين الإيمان والكفر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.    

خالص جلبي
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى