شوف تشوف

شوف تشوف

التعليم عن بعد

تتوالى البلاغات من طرف جمعيات أرباب التعليم الخاص والتي وجدت نفسها في قلب جدل سياسي واجتماعي وقانوني بسبب التوقف الإجباري للدراسة.
قد يبدو هذا الجدل للوهلة الأولى ظرفيا، لكون إجراءات الحجر الصحي فرضت على مؤسسات التعليم الخصوصي التقليل من الخدمات التي تقدمها للأسر في بعض الحالات أو توقفها في حالات أخرى، ولكن الحقيقة هي أن هذه الظرفية أخرجت مشكلات كامنة من العمق إلى السطح.
فمن جهة نجد أن التعليم، مثله مثل قطاع الصحة، يظل خدمة عمومية مهما كانت صفة الجهة التي تقدمها. ومن جهة أخرى هناك قوانين كثيرة وقطاعات حكومية متعددة تتقاسم مسؤولية مراقبة المؤسسات التي تستثمر في هذه الخدمة. فوزارة التربية الوطنية لها مسؤولية المراقبة التربوية والإدارية. ووزارة التشغيل لها مسؤولية مراقبة احترامها لمدونة الشغل في استخدام أكثر من 71 ألف مرب وإداري. ووزارة الداخلية من خلال إشراف الولاة على المراكز الجهوية للاستثمارات، والتي تتسلم ملفات خلق مؤسسات استثمارية من هذا النوع التعليمي أو التكويني.
لذلك فالأمر ليس بسيطا كما قد يتصور البعض. صحيح أن المسؤولية المباشرة لوزارة التربية لكن حل مشكلات القطاع لن تتم قطعا من طرف وزارة واحدة، بل من طرف الحكومة ككل.
فجوهر المشكل هو أن الدولة تعرف جيدا أن تغطية كل الأحياء السكنية بمؤسسات تعليمية بمختلف المستويات أمر صعب جدا إن لم نقل مستحيل. ففي كل المدن الكبرى والمتوسطة هناك أحياء كبيرة تضم مئات الأسر لا توجد فيها مدرسة أو ثانوية عمومية، والأمر “عادي” من جهة هذه الأسر، لأنه حتى لو تم بناء مؤسسات تعليمية عمومية فإن نسبة الاستقطاب تظل ضعيفة.
من هذه الزاوية، هل تساهم المدارس الخاصة في تعميم وتأمين التعليم؟ الجواب هو نعم بكل تأكيد. والذين يطالبون اليوم بإغلاق المدارس الخاصة، هم ضحايا انفعالات لحظية، لأنهم يجهلون أن تكاليف إحداث ثانوية مثلا تتجاوز ملياري سنتيم. فالوعاء العقاري لوحده معضلة مالية وقانونية كبرى، ناهيك عن التجهيز وتوفير الموظفين. إذن هل يمكن للدولة أن تبني 5828 مؤسسة تعليمية في ظرف سنة واحدة لتعويض المؤسسات الخاصة؟ طبعا يستحيل هذا، ويكفي أن نذكر هنا مرة أخرى أن متوسط ميزانية بناء مدرسة واحدة يتجاوز نصف مليار للبناء فقط، دون الحديث عن ميزانية العقار والتجهيز وتوظيف الموارد البشرية.
هذه الحقيقة، يعرفها جيدا أرباب التعليم الخاص كما يعرفها مسؤولو القطاعات الحكومية سابقة الذكر.
وبالعودة إلى الجدل الذي خلفته مطالبة المدارس الخاصة بحقوقها المالية. فإن القانون المنظم لعمل القطاع الخاص، يعتبر التعليم عن بعد خدمة مؤدى عنها، أي أنها خدمة غير مجانية من خدمات المؤسسات الخاصة. بل وخصص القانون نفسه بابا قائما بذاته لهذه المسألة هو الباب الخامس، والمكون من أربع مواد. لكن هذا الباب نفسه، اشترط أن تضع الحكومة قانونا تنظيميا تفصيليا ينظم التعليم عن بعد، وهذا ما لم تف به الحكومات السابقة، علما أن هذا النص القانوني صدر منذ عشرين سنة، وتحديدا في ماي 2000.
ففي هذا القانون نجد كما قلنا مفارقة، وهي أن التعليم عن بعد هو خدمة مؤدى عنها شأنها شأن التعليم الحضوري، ويعطي للمؤسسات الخاصة الحق في تلقي 30 في المائة من المبلغ السنوي للدراسة. بل ويتم أيضا “احتساب نفقات الكتب والأدوات والوسائل التعليمية الضرورية لتلقي هذا النوع من التعليم عن بعد”. ولكنه يشترط بالمقابل أن يتم هذا التعليم بموجب عقد بين التلميذ أو ولي أمره والمؤسسة التعليمية. والواقع أنه ليست هناك مؤسسة واحدة، وخاصة في مستوى التعليم المدرسي (ابتدائي وثانوي)، يجمعها عقد من هذا النوع مع التلاميذ.
ما نفهمه من كل هذا، هو أن مسؤولي القطاعات الحكومية وأرباب التعليم الخاص وجدوا أنفسهم أمام وضعية لم يفكر فيها أي منهما، بدليل أن الحكومة في قانونها سابق الذكر تتحدث عن “التعليم عن بعد” كخدمة اختيارية للتلميذ، والحال أن الظرفية الحالية فرضت أن تكون إجبارية. وفي الوقت نفسه وجدت أغلبية المؤسسات التعليمية نفسها بدون موارد رقمية خاصة بها، تمكنها من المطالبة بحقوقها وهي تؤدي خدمة التعليم عن بعد. لذلك فهي تكتفي بالمواد نفسها التي أنتجتها الوزارة، أي أنها مواد مجانية متاحة للجميع.
فالمؤكد، أن الأمر يتعلق بدرس قانوني واجتماعي ينبغي على الجميع الاستفادة منه. من منطلق أن الدولة ليست بقادرة، في الأفق المنظور على الأقل، على الاستغناء عن خدمات التعليم الخصوصي، ولا مؤسسات هذا التعليم بقادرة على إثبات مشروعية مطالبها بـ”المال مقابل التعليم عن بعد”، لأنه عمليا لا يوجد اليوم شيء اسمه تعليم عن بعد خصوصي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى