التعصب والتمركز الذاتي
عبد الإله بلقزيز
لدى كل إنسان قدر من الاعتداد بالنفس يزيد أو ينقص تبعا لتكوين وعيه، أو لمؤثرات المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه.
وبمقدار ما يجوز أن يُحسب الاعتـداد الـذاتي ذاك في جملة ما هو جِبِلي – حيث الأنانية، في جزء كبير منها، معطى طبيعي- يمكن أن يُحسب، في الوقت عينه، أثرا من آثار التربية والمحيط وثمرة للفكرة التي يكونها المرء عن نفسه؛ عن تفوقه أو نجاحه أو «تفرده». والغالب على من يشعرون بالتميز، وينمو لديهم الشعـور بذاتيتـهم المميـزة، أنهم يحظون بامتياز ما عن أقرانهم – وهم يعتقدون بمثل ذلك الامتياز-؛ كأن يكونوا من محتد اجتماعي عريق (نبلاء أو شرفاء)، أو ممن يملكون ثروات مادية، أو ناجحين في أعمالهم، أو ذوي نفوذ سياسي، وما يشابه ذلك، يبرر لهم مثل ذلك الاعتقاد، ويحملهم على الحرص على إظهار ذلك الاعتداد بذواتهم أمام الناس.
وكما تتولد نزعة الاعتداد بالنفس والتمركز الذاتي من فعل عوامل الطبيعة والتكوين والتربية والخبرة الحياتية، كذلك يمكنها أن تستفحل في المرء وتستبد به إلى الحد الذي تستحيل فيه إلى حالة مرضية، تخرج به عن حد محض تعبير من المرء عن تقدير نفسه، وحتى الإفراط في الثقة بها، ليتحول إلى نرجسية؛ أي إلى حب مرضي للنفس مقرون بأنانية مفرطة، يحجب الإسراف فيها المرء عن تحقيق اجتماعيته، والاندماج في محيطه والتفاعل أو التواصل مع الآخرين. وغالبا ما تترجم هذه النرجسية نفسها في شكل سلوك من التعصب مغلق يقترن به، ويساوقه، شعور رديف بإنكار الآخر وكراهيته… وقد يفضي إلى نقل تلك الكراهية من حيز الشعور إلى حيز الفعل؛ فلا يجد، حينها، ما يكبح ميله نحو إيذاء غيره.
ما يحصل للأفراد من مَنَازِعَ إلى التمركز الذاتي والنرجسية يحصل للمجتمعات والأمم أيضا، فتصاب به. وقد يكون مفعوله فيها غير ذي خطر، كما قد يبلغ من التفاقم والاستفحال قدرا يأخذها إلى حال مرضية من التعصب لذاتها، ومن الشعور المتدرج بالتفوق إلى الشعور بـ«التفرد» والتعالي عن غيرها واحتقاره والحط منه. وهي، بالقدر من المغالاة في أوهام «الفرادة» التي قد تصيب الأفراد، يأخذها شعورها المرضي إلى أحوال تترجمه فيها إلى أفعال عدوانية ضد غيرها تصرف فيها مشاعر التعصب والكراهية تصريفا ماديا سياسيا.
لا تَعْرَى أمة في التاريخ الإنساني من هذه اللوثة، وإن هي مما يحصل لكل منها بمقدار من التفاوت في الحجم والحدة. وهي تصيب، أكثر ما تصيب، المجتمعات والأمم المكتنزة بالتاريخ؛ ذات الميراث الحضاري الثر والضارب في الزمن. وليس معنى ذلك أن المجتمعات والأمم الفقيرة إلى المخزون الحضاري تَعْرَى من هذا الشعور بالمركزية الذاتية؛ فهي تعيشه أيضا، لكن بدرجة من التكثيف والحدة أقل. تبلغ نزعة التبجيل الذاتي لدى الأمم التاريخية – فلنسمها هكذا- حدودا بعيدة؛ إذ التبجيل والاعتداد بالنفس والاعتقاد بالتنزل منزلة المركز من العالم، هي مما لا تكون دائما في جملة المُوعَى به من الشعور، بل هي في الغالب مما ينتقش في الإدراك الجمعي، ويُتناقل بالتوارث والتواتر فيُستبطن حتى لدى من ليست لهم معرفة يسيرة بالموروث الحضاري، ولا وقفوا – بالعِلم- على قليل من معطياته. هكذا تصبح النزعة هذه داخلة في باب غير المُوعى به الحاكِم نظرة المرء إلى نفسه وإلى العالم من حوله.
على أن مفعول هذه النزعة في الأمم التاريخية التي انقطعت عن مسيرتها الحضارية، ولم يبق لها منها غير ذكرى ماض تستعيده، استعادة نوستالجية (وتلك، مثلا، حالة الأمة العربية وبعض الأمم الإسلامية)، أقل – بما لا يقاس – من مفعوله في أمم أخرى تاريخية استأنفت تاريخها الحضاري، وما فتئت تضيف إلى رصيدها الماضي أرصدة جديدة حية من المدنية والتقدم والتراكم. وتلك، مثلا، حال الأمم الأوروبية ذات الميراث الحضاري اليوناني- الروماني العريق، أو التي لا تتمتع بمثل هذا الموروث، ولكنها تصنع شطرا من مدنية الغرب الحديثة، مثل الأمة الأمريكية، من غير أن ننسى أمما أخرى ذات خلفية حضارية غنية تستأنف نهضتها، اليوم، من خارج الدائرة الجغرافية الغربية، مثل الأمم اليابانية والصينية والهندية. إن هذه جميعها تعيش، على تفاوت بينها – مفعول ذلك الشعور من المركزية الذاتية الذي يتغذى من المكتسبات التي لا تني تنجزها اليوم.
أظهر البيئات الاجتماعية والسياسية والثقافية، في عالم اليوم، التي يتركز فيها هذا المنحى من التعبير عن نزعة التمركز الذاتي، والتي تبلغ فيها ذرى من الكثافة غير مسبوقة، هي بيئة المجتمعات والأمم الغربية: الأوروبية والأمريكية. ما من شك في أن الظاهرة هذه تقبل التفسير، بيسر، إن نحن أخذنا في الحسبان المكانة التي احتلتها مجتمعات الغرب في البناء الحضاري وصناعة التاريخ، وما يقترن بذلك من شعور بالتفوق. غير أن الذي لا مرية فيه أن الشعور هذا لا يتصل، حصرا، بمنجزها الحديث والمعاصر، وإنما تشارك في نسج خيوطه ذاكرة تاريخية مذخورة ببقايا تمثلات عن الذات تعود إلى ما قبل العصر الحديث بزمن طويل.
كما تتولد نزعة الاعتداد بالنفس والتمركز الذاتي من فعل عوامل الطبيعة والتكوين والتربية والخبرة الحياتية، كذلك يمكنها أن تستفحل في المرء وتستبد به إلى الحد الذي تستحيل فيه إلى حالة مرضية، تخرج به عن حد محض تعبير من المرء عن تقدير نفسه