شوف تشوف

الرأي

التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (6-12)

بقلم: خالص جلبي
مع هذا فلكل رجل اجتهاده ولعل جودت سعيد، يرى أن الكناية أفضل من الإفصاح وأن الترميز خير من القول المباشر، وأن هذا أرفق بالنفوس البشرية وهو في قسم منه ليس صحيحا.
وأذكر أنني في يوم كنت أريد رأيه في قضية مع زميل لنا في العمل، وكانت زوجته هالة رحمها الله تمشي معنا، فسمع حتى النهاية ولم يجب بحرف، فقالت له: «أجب الرجل عما سأل»، فأجابها بشيء من الحدة: «أجيبيه أنت إذن»، ولم آخذ منه جوابا.
ويجب أن أسجل للرجل تركيبته النفسية لأنني اعتقلت معه، وكان الشيخ قد اعتقل قبل ذلك مرات، وكان اعتقالنا لصالح المخابرات العامة في الحلبوني بدمشق في قصر كان للشيخ الحسني، رئيس جمهورية أسبق، فأصبح وكرا للمخابرات ومكانا للتعذيب. وقضينا فيه 250 يوما حسوما، ورأينا فيه من الأهوال ما يحتاج إلى كتابة قصة كاملة عنه. وكان اعتقالنا عندما كنا في زيارة إلى مدينة السلمية، فتطوع (الشباب الطيبة!) من المخبرين السريين في كتابة تقرير في حقنا. وكانت أحداث الدستور عام 1973م (مولعة) في مدينة حمص، حيث كان الأسد قد برمج دستورا فصله على مقاسه، وعارضه الناس في ذلك، فامتلأت السجون بالمعتقلين كالعادة. وكان نصيبنا أننا اعتقلنا (على الريحة) بدون أي ذنب جنيناه أو فعل قمنا به. فهجموا علينا في منزل خالد حسون، الذي كنا في ضيافته، واعتقلت والشيخ جودت وإمام البلد الشيخ عبد الله الشغلي، ورأيت بعيني من صفع الشيخ جودت صفعة أليمة في مركز فرع المخابرات في السلمية، تركت أثرا أحمر على خده. وكان عنصر المخابرات الضارب يدخن السجائر بعصبية، وأصابعه ترتعش خوف الموت.
ثم قادونا إلى حماة فدمشق تحت جنح الظلام. والتفت يومها إلى الشيخ الشغلي وقلت له: «بلغني عنك إنك تمنيت في يوم أن تكون (قربة) لشرب الماء بقربه، فها أنت بقرب الشيخ جودت فترة طويلة، فافرح بها فقد بلغت منيتك». فبلع الشيخ الشغلي رحمه الله تعالى ريقه بصعوبة، ولم يتابع الحديث ولم ينطق بكلمة. وفي النهاية رست بنا الرحلة في دمشق، فقادونا إلى سجن المزة العسكري الرهيب، فكان غاصا ممتلئا بالزوار، ولم يكن لنا فيه مكان، فأرجعونا إلى الحلبوني فرع المخابرات العامة. والحلبوني حارة في دمشق تكثر فيها المكتبات، وبجانب الفرع السجن يوجد مسجد، ولا يصدق أحد أنه بين الأهالي تجري كل هذه الفظاعات. فلا يسمع صوت المعذبين في ظلام الليل إلا قليلا. وفي الصباح الباكر اقتادونا إلى قسم المخابرات العامة في منطقة أخرى، حيث أشرف على ضربنا وتعذيبنا نحن الاثنان أنا وجودت (عدنان الدباغ)، وزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة، وهو حلبي الأصل. وسمعت أنه مات لاحقا بسرطان الرئة، مختنقا في سكرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون. وكان الطاغية قد أرسله إلى لندن للعلاج بسبب خدماته، ومنها أنه حمله على أكتافه حين زار حلب. والطاغية لا يحكم بيده، بل هؤلاء الأمساخ من القردة والخنازير وعبد الطاغوت. وفي حفلة التعذيب كسروا أسناني ضربا (بالبوكس)، وبقيت شهرا لا أقوى على المشي على قدمي، وكانت أياما هينة قبل كارثة تدمر. ورحمنا الله بأن عجل لنا العذاب، وأوحى إلي أن أخرج من السجن الكبير الوطن، قبل الزلزال بفترة قصيرة. وكان مثل الوحي يأتيني ويقول: «يا خالص غادر البلد». وما زلت أذكر ليلة وأنا أتوجه في ظلمة الليل على سطح البيت الذي كنت مستأجرا فيه، بحي الشيخ محيي الدين بن عربي، وأنا أدعو الله في هدأة الليل: «ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين». واستجاب الله دعائي، فخرجت منها وأنا أقول كما قال موسى فخرج منها خائفا يترقب، قال: رب نجني من القوم الظالمين، الذي ذهب إلى مدين يسعى وأنا سعيت إلى ألمانيا، ثم كندا وغسلت يدي من السجن الكبير والحمد لله وله المنة والفضل. وهذه وقائع يجب روايتها وقراءتها على أولادنا، ليعرفوا ماذا حصل لنا فمن لم يعرف التاريخ يدفع الثمن مع فوائده المركبة، كما حصل معنا، ولو أن آباءنا كانوا أكثر وعيا وقطعوا الطريق على الديكتاتورية البعثية، لما نبتت كأنها شجرة في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين.
المهم فقد لبثنا في السجن 250 يوما، حفرت آثارها على رخام الذاكرة بقلم لا يزول. كانت الليالي والأيام تمر ونحن نحفر كل يوم على الجدار خطا، حتى نعرف السنين والحساب وكم مضى علينا فيه. وكانت أياما وليال طويلة ممضة ضيقة. جزى الله المجرم الأسد ما يستحقه مما فعل بالناس إلى يوم القيامة. والرجل وضع رأسه في القبر وولى ملعونا غير مأسوف عليه، ولكن كما يقول القرآن: «إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين. حتى خرجنا ولعنة الله على القوم الظالمين».
يذكر جيفري لانغ في كتابه «حتى الملائكة تسأل؟»، أنه كان طفلا يخرج مع أبيه للصيد، فسأله ذات يوم ضباب: «هل تعتقد بالجنة والنار؟»، فصمت طويلا حتى ظن أنه لم يسمع السؤال، ثم أمسك أنفاسه والتفت إلى ابنه وقال: «أما الجنة فلم أرها ولا يمكن أن أقول لك شيئا عنها، ولكن جهنم لها مواضع كثيرة». والبعث في سوريا حول سوريا إلى جهنم كاملة، بدرجاتها التسع وأبوابها السبعة من فروع المخابرات، وفي أسفلها سقر وما أدراك ما سقر؟ وكلها بعبقرية وتخطيط يعجز إبليس عن أن يفعل مثله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى