التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (5)
بقلم: خالص جلبي
خلال معرفتي الطويلة به فترة تزيد على ثلاثين سنة، أعرف عنه كما أصف المبدع بيتهوفن الموسيقار الألماني بأنه يبدع من حين لآخر سيمفونية فكرية جديدة، فهو يولد الأفكار ويصقلها دوما. وهو في كل فكرة يرسخها ويصقلها فتلمع بأشد، وهو أمر لا يتفطن إليه المتابع عن كثب من تلامذته، فيكتب عنه ما يشاء ولا يعرف في أي حقبة يعيشها جودت ولا يستوعب أن جودت يتطور ويكبر باستمرار ويطور طروحاته، بدون توقف بسبب العقلية النقدية المنفتحة على العلم والعالم.
ومعظم من حوله يذكر بالصحابة الكثر، الذين لم يكونوا يفقهون على الرسول (ص) كثيرا، وهم الذين تنازعوا بعد موته وهم الذين ضاعت من أيديهم وفي عصرهم الخلافة الراشدة، واستطاع الفريق الأموي الانتهازي أن يغير مسرى التاريخ العربي من راشدي إلى بيزنطي.
وأذكر سيدة فاضلة تدرس المواد العلمية في الثانويات بدمشق، وتكاد لا تضيع محاضرة لجودت وإذا اجتمعت به وضعت المسجلة، أو بدأت بكتابة ما يقول بخط يدها، ولكنها عندما حضرت الانتخابات المزورة ذهبت إلى صناديق التزوير وكتبت نعم، وعندما ناقشها ابن أخت جودت سعدية، وهو عبد الرحمن الشاغوري الذي ألقي القبض عليه وأودع السجن، من أجل دخوله على مواقع المعارضة في الإنترنت، عندما سألها عن رأيها في انتخاب الطاغية، قالت: «إنه أصلح الموجود». وبذلك أثبت عبود وعيا سياسيا لا يقارن مع مدرسة العلوم والتلميذة المتابعة. وصحابة من هذا النوع، هم الذين انتخبوا معاوية وابن معاوية وذرية معاوية من بعد، وضاع ميراث النبوة بين قبائل العربان. ويقال إن معاوية كان من كتبة الوحي، كما هو الحال في مدرسة (الأستاذة) العلوم التي تكتب وحي جودت ولم تستفد منه شيء. وسقراط لم يكتب شيئا، مع كل الحكمة التي نطقها.
وعندما حصل لي الاقتراب من جودت أكثر، كان يمكن أن يحصل بيننا نفور، ولكن الرجل فيه ميزة أنه لا يصدم أحدا أو يجرح مشاعره، بل يعمد إلى تطبيق عملي للآية أنه يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم، وفي قناعتي أنه تكتيك ذكي وناجح. فمثلا إذا اجتمع بشخص أشار إلى العلم بشكل عابر أثنى عليه واقتطف بعضا مما ذكر، وأخذ يفتق ويعمق في الاتجاه نفسه، وصاحب الفكرة لم يقل بهذا ولم يقصد ذلك. ونحن كنا نفعل الشيء نفسه، حينما نخاطب الجمهور بعد الصلاة، وكانت عادة نتبعها في بعض المساجد، فنأخذ شاهدا مما ذكره الإمام، ثم نقوم بشرح فكرتنا وليس فكرته.
وإذا اجتمع الشيخ مثلا بالشيعة، فهو يعرف هوى قلوبهم فيأخذ فقرات مما قالته فاطمة الزهراء أو مما ورد في نهج البلاغة، ثم يقوم بشرح فكرته من خلال كلمات الشيعة. وهو تكتيك جيد ويبني الصداقات ويبعد العداوات، فيظن الشيعة أنه منهم. ويظن المسيحيون أنهم أخطؤوا طريقهم، فالرجل يعرف الإنجيل أكثر منهم. وهكذا فهو ينمي الجانب الإيجابي عند كل إنسان وطرف. وفي مرة أرسل تحية لعبد الحميد سليمان، لأنه أشار بكلمة إلى المقاومة السلمية. وفي مرة أرسل تحية لإدوارد سعيد وثالثة لخاتمي. ومرة أثنى بحرارة على الشيخ ياسين، لأنه قال إن خلافه من الفلسطينيين داخلي سيحله بطريقة ابن آدم، فلن يبسط يده بالقتل فاعتبرها الشيخ أنها فتح الفتوح. ونحن نعلم أن المنظمات المسلحة تحت إمرة الشيخ ياسين، تؤمن بالقتل سبيلا لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
وهذا لا يعني أن الرجل لا يخطئ أو أنه نبي مرسل، بل نشير بطريقته نفسها وإليها نحاكمه، أي أن نتقبل عنه أفضل ما عمل ونتجاوز عن سيئاته. فنشير إلى الجوانب الإيجابية عنده، والتكتيك السليم الذي يسلكه، فلا يجرح شعور أحد ويكسب عداوته، وهو أمر سهل لمن ارتكب هذه الحماقة وهم كثر.
وإن كنت أخالفه في قضية هنا، فهي عدم دخوله في الإجابة المباشرة عن أي سؤال، ومحاولة التهرب وعدم إقحام نفسه في القضايا المباشرة. ففي يوم كنا في كودنة، وهي قرية قريبة من بير عجم، حيث كان يسكن الشيخ في الجولان السوري، وكنا مجموعة من الناس معه، فتقدم رجل بالسؤال إليه عن رأيه في قناة «الجزيرة» القطرية، وكانت قد فتحت منذ وقت قريب، فالتفت إلي يشجعني على إجابته، وقمت أنا بشرح مبسط ومباشر عن القناة، ولكن الرجل لم يكن يريد أن يسمع إلا منه. فقام الدكتور عمار، وهو من حوران، بمحاولة ثانية. ولكن الرجل كان أصم إلا عن الشيخ، فلما لم يكن بد من الإجابة، بدأ الشيخ يحدثه عن نظريات توينبي في التاريخ والتحدي والاستجابة وفوكو في الفلسفة، وشيء من هذا القبيل. فكانت إجابته فيها كل شيء إلا الجواب. فلما خرجنا من الجلسة، قلت له: «أظن أن الرجل كان من حقه أن يسمع منك شيئا، فلم يسمع ولم تجبه»، فضحك الدكتور عمار وقال: «إنك تفهم الشيخ».
وأنا لطول عشرتي له أعرف فيه هذا. وفي قناعتي أنها طريقة قد تنفع عند السياسيين، ولكن أصحاب الفكر يجب أن يواجهوا القضايا مباشرة. وربما لأنني جراح، ونحن نستخدم المبضع لتوجيهه مباشرة إلى مكان الآفة، قد اعتدنا مواجهة الطوارئ والقضايا الخطيرة، أما أهل السياسة فهم قد يجيبون، ولكن لا تأخذ منهم حقا أو باطلا كما يقولون. وأنا شخصيا لا أسمع كثيرا إلى السياسيين ولا آبه لهم، ولا أفتح القنوات الفضائية العربية كثيرا لسخفها، وسطحيتها أنها لا تمسك بحقائق الأشياء، وتضيع الوقت تحت غبار كثيف من الألفاظ المنمقة، كون العقل العربي يعشق الكلمات. وربما أفضل ما أراه في التلفزيون، هو قناة «الديسكفري» لأنها علم، والعلم آخر ما يتكلم به السياسيون.