التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (10- 12)
بقلم: خالص جلبي
هذا الكلام من الصفحة 210 من كتاب «مذهب ابن آدم الأول أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي»، الطبعة الخامسة عام 1993، والآن بعد طبع الكتاب للمرة الأول مضى 37 عاما، أي نحو أربعة عقود، وصارت المواجهة مع العمل الإسلامي مشكلة عالمية، بعد 11 شتنبر 2001، وانفجار المشكلة الإسلامية إلى مستوى عالمي لما قلت قبل أربعة عقود (ما أتوقعه في العقود القادمة، من إمكان اشتداد الصراع وزيادة عجز المسلمين إلخ). إن ما حدث من هذه التوقعات أكبر مما كان يمكن توقعه، ولكنني أتوقع الآن أننا في آخر النفق المظلم، وأننا سنخرج من ظلام الماضي إلى فجر أعمال ومواجهات سلمية، جاءت إرهاصاتها في ثورة إيران السلمية التي هزت العالم، وإن كان الأسلوب الذي مارسه الخميني تكتيكا وليس استراتيجية، إلا أن إعلان تركيا أننا (سنستشير الشعب في رأيه) في السماح للقوات الأمريكية بالمرور من تركيا إلى العراق شيء جديد في العالم الإسلامي. وأنا الآن أتوقع أن يتعاظم الأسلوب الإيراني ليصل إلى مستوى (سنستشير الشعب ولا نفرض عليه وصايتنا)، كما وصلت إليه تركيا. والأتراك أول من كفر بالإسلام، وكأنهم أول من عاد من المسلمين إلى أن الشورى للشعب، أول عودة منذ معاوية، ليعم هذا الأسلوب في العالم الإسلامي في العقود القادمة. وأنا موقن بذلك وأقول للذين سيشهدون العقود القادمة، إن هذا التوجه طريق ذو اتجاه واحد فقط، وأنا أزيد في الجعل ونرجو النقص في الأجل إنه حتما قادم ولم ينطفئ هذا النور.
وموضوع مذهب ابن آدم الأول كبر حجمه عندي، حيث حاولت أن أكتب حول مذهب ابن آدم بعد الكتاب الأول كتابا ثانيا، حول الموضوع نفسه بعنوان «كن كابن آدم»، كتبته بعد ثلاثة عقود من الكتاب الأول.
والآن أرى أنه لم يبق في العالم إلا مذهبان، مذهب من يريد حل المشكلات بـ«لأقتلنك» ومذهب من يقول: «لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين». وأنا أفهم الآن من كلمة ابن آدم الذي رفض الدخول إلى الصراع الجسدي، تحقق علم الله في الإنسان من أنه سيقضي الإنسان على الفساد في الأرض وسيقضي على سفك الدماء؛ بل سيصل الإنسان إلى درجة أن يتذكر ما سفك من الدماء، مخجلا أن يتحدث عنه ولا يلوث لسانه كمن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
إن الحوار الذي جرى بين ابني آدم هو الحوار بين قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها، إن التزكية تمكث في الأرض وإن التدسية تذهب جفاء. وكل يوم تطلع فيه الشمس والبشر يتقدمون ليحققوا موقف ابن آدم، الذي رفض أن يدافع عن نفسه كأنه يقول: إن الله نفخ في من روحه، وجعلني أفهم الأمور بعواقبها ولن أتراجع إلى ملة شريعة الغاب والناب، ولن أستخدم يدي في التعامل مع روح الله في الإنسان، الذي جعل الإنسان في أحسن تقويم ولن أقبل أن أعود إلى أسفل سافلين. ورأينا كيف تطور هذا الاتجاه، حيث الاتحاد الأوروبي الذي كان جنينا فولد حديثا فألغوا حكم الإعدام. لأن آيات الآفاق والأنفس التي هي مرجع القرآن فرض عليهم أن يلغوا حكم الإعدام على الإنسان. وهم يتحدون الآن من غير أن يرسلوا جيوشا للفتح، وإنما يضعون شروطا لقبول الذين يقدمون الطلبات للانضمام إليهم. وهذا خلق جديد لم يسبق له مثيل في التاريخ، ويمكن أن يكون نواة لوحدة عالمية مبنية على العدل، وقد يرتفع إلى مستوى الإحسان. إن البدء من العدل كلمة السواء، وقابل أن يتحول إلى الإحسان الذي يحول النفوس الأمارة بالسوء إلى النفوس المطمئنة، والقلوب السقيمة إلى القلوب السليمة التي ليس فيها غل. والإنسان صناعة وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. والعامل المؤثر فيهما قانون الحق والباطل، الذي يذهب فيه الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس. وهذا هو قانون النسخ دائما، والذي يقوم بالنسخ هو الأنفع للناس جميعا. وكأن ابن آدم يقول لأخيه: أنا صار عندي روح الله العقل الذي يفهم العواقب، أرفض العودة إلى استخدام العضلات في التأثير على الجهاز العصبي في الإنسان، ومن غير جهد كبير صار يمكن فهمه الآن.
وفي عام 1972 طبعت كتابي الثاني «حتى يغيروا ما بأنفسهم»، حاولت إعراب هذه الجملة القرآنية على أساس قواعد النحو في اللغة العربية، من أن في هذه الآية فعلان وفاعلان ومفعولان. الفعلان هما يغير ويغيروا، والفاعلان الفاعل ليغير الأول هو الله تعالى الذي يخلق النتائج من الأسباب يخلق النعم الصحة الجسدية والصحة النفسية، والفاعل الثاني هم الأقوام، ومفعولهما ما بالأنفس البشرية بالقدرة على ربط الأسباب بالنتائج. هذه هي المعرفة والعلم الذي يمكن إعطاؤه للإنسان، فيغير ما بنفسه، بمعرفة أسباب الصحة والمرض الذي يطرأ على الإنسان على جسده وعلى نفسه. وفي هذا الكتاب حاولت أن أبين أن مصيره صار بيده، لأن تغيير ما بالأنفس وظيفة الإنسان وفعله، ووظيفة الله وفعله هو خلق النتائج، حين يغير الناس ما بأنفسهم وعمل الله في هذا تابع لعمل الإنسان. ويقول الله: «أنا لا أغير ما بكم من نعمة أو نقمة حتى تغيروا أنتم ما بأنفسكم». ولكن وضعنا نحن في العالم الإسلامي نقول: «أنت الذي تفعل كل شيء، ونحن لا دخل لنا فيه». ولكن الله لن يغير سننه لأنها ثابتة، لن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. وكأن الناس لا يكشفون سنن الله ولا يقبلونها، إلا إذا ذاقوا العذاب الأليم «ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون»، إن الذين عطلوا عقولهم «لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم».