بقلم: خالص جلبي
هل يا ترى لو اعتمدت دول الخليج سياسة التعريب ببطء، لكان بالإمكان نشر اللغة العربية في العالمين؟ فهناك ربما 60 جنسية مستوردة إلى المنطقة، إنه سؤال مفتوح. فالاتصال هو ميزة بني آدم، فلا يمكن أن يعالج طبيب مريضا؛ إذا لم يفهم عليه مما يعاني، ولا يمكن استقدام ترجمان في كل مرة ومكان.
وعدد المرات التي طلبت فيها للفصل بين الطبيب والمريض أن لا يستأصل مرارة بدون مبرر، ولا يفتح بطنا دون التأكد، أو يجرح لإزالة فتق في الجنب الغلط.
واليوم يشتغل الواقع بطريقته الخاصة، فإذا لم يتعلم الناس العربية الجيدة، فلسوف ينطقون العربية المكسرة.
وهكذا ولدت لغة بحكم الواقع هي عربية وعجمية في الوقت نفسه، وهي من أعجب الكلام؛ فالعامل البنغالي مثلا يقول: أنا في كلام أنت في معلوم، يقصد أنه يتحدث وأن الآخر فهم عليه.
وعندما يراجع الإنسان تاريخ قوة اللغات وانتشارها من ضعفها وانقراضها، فإن هذا يرجع إلى قوة الحضارة.
واليوم تظهر قناة «ديسكفري» لغات لم يعد يتكلم بها أكثر من 150 شخصا، كما في لغة المايا في غواتيمالا.
ومقابل ذلك فقد تم إحياء اللغة العبرية، بعد أن كانت ميتة، في الوقت الذي تقتل العربية وهي حية.
وتنقرض عشرات اللغات في السنة؛ فلا يبق إلا الأفراد الذين يتكلمون بها.
وهناك حاليا ستة آلاف لغة على وجه الأرض، في ستة مليارات من البشر، ولكن بعد نصف قرن قد لا يتبقى إلا المئات منها، وهناك مشروع حجر رشيد لحفظ اللغات في الإنترنت.
وقصة اللغة العربية تحكي قصة التفوق الحضاري أو الهزيمة.
وابن خلدون في المقدمة عقد فصلا عجيبا بعنوان، فصل في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.
ويعلل ذلك ابن خلدون أن «النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم».
ثم يروي ابن خلدون كيفية سريان هذه القاعدة على تقليد الناس لأهل الحاميات العسكرية، فيقول: «وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان، لأنهم الغالبون لهم».
ثم يستشهد بواقعة من هذا النوع لاحظها في أهل الأندلس في زمانه، فيقول: «كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل والجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله».
وكلام ابن خلدون ينطبق على موضوع اللغة.
وجامعة دمشق حاولت تعريب الطب، ولكنها دخلت معركة خاسرة، وزادها بوارا انتقال زمام هذه المحاولة إلى يد القوميين الشوفينيين الخائبين الذين محقت البركة مع حضورهم، كما في حضور الشياطين المجالس، فما وضعوا يدهم في شيء إلا نكب وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش.
وأما في المغرب فقد تحولت العربية إلى خليط لغات، تكاد لا تفقه لهم قولا!
تأمل هذه الفقرة من جريدة «المساء» المغربية صفحة (ركن الجواج)، أي الزواج:
«هجالة بالدارجة تاعنا. كان يكول لي المرحوم مال سنانك ديما بايتين في الزنقة. مشيت طبيب الأسنان باش نقادهم، كال لي المشكلة عندك في لاما شوار اللي خارجة بزاف».
أو في صفحة الكاريكاتير السياسي «نوض شعل لينا شي عافية أسي عباس، باش نسخنو هاد البنادر راه بردو».
واليوم تزحف اللغة الإنجليزية عبر الإنترنت في كل العالم، ومن لم يتصل باللغة الإنجليزية والإنترنت أصبح خارج التاريخ والجغرافيا، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
ولنبك لغة العروبة التي تحتضر ولنوزع بطاقات النعوة..
فكل لغة هي لسان قومها، فإذا خرسوا خرست، وإذا نطقوا عبرت وأبدعت..
والعرب اليوم صم بكم عمي فهم لا يفقهون…
نافذة:
هناك حاليا ستة آلاف لغة على وجه الأرض في ستة مليارات من البشر ولكن بعد نصف قرن قد لا يتبقى إلا المئات منها